29‏/04‏/2009

في الأوهام الطهرانية للمعارضة السورية


بعد إعلان دمشق( وليس دمشق- بيروت) قطعت (المعارضة) السورية شوطا بعيدا في تحديها للنظام، إذ أنها أعلنت بوضوح أن هدف المنضوين تحت هذا الإعلان هو تغيير النظام السوري لأنه لم يعد ممكنا إصلاحه (...) وإصلاحه ظلت تنادي به (المعارضة) إلى أن نبت على لسانها شعر وظلت تتوسل النظام لإصلاح نفسه ودمجها في الخيار الوطني الذي يعني أشياء كثيرة أهمها مشاركتها في السلطة أو على الأقل جعل معارضتها قانونية وهذا حق لها كما في كل دول العالم بما فيها إسرائيل الغاشمة التي يَعدُ النظام - عبر حماس وحزب الله و...- بتمريغ وجودها في الوحل وجعله أثر بعد عين.


وقد كان النظام السوري عبر تاريخه يحتقر المعارضين ولا يلقي لهم بالاً ويتحدث عنهم كنكرات، ما عدا فترة بداية تحدي الإخوان المسلمين له وإدراكه لإمكانياتهم. وقد خطب الرئيس الأسد (الأب) في تلك الفترة في أحد مؤتمرات الفلاحين أو ما شابهها وكان صوته المتهدج ببحته المعهودة يوحي كم كان الأمر خطيراً وقتها، وقد عرض مسيرة تفاوضه مع الإخوان تحت لازمة: قلنا لهم... وقلنا لهم.. بما فيها عرض حقائب وزارية عليهم، وأعلن يومها انه مسلم (...) في محاولة لنزع أحد الأوراق التي استخدمها الإخوان المسلمين ضد رأس السلطة.
فيما بعد وحينما تم إنهاء الإخوان على الأرض بحرب شرسة استخدم فيها الطرفان كل أسلحتهم المتاحة، أصبحت (المعارضة) في خبر كان وآلت إما إلى الصمت أو القبر وإما إلى سجون النظام الوحشية التي لو سجن فيها حجر لانهارت عزيمته

الإعلان كمدخل أول:
إن المنضوين تحت إعلان دمشق لا يمكن لهم تجاهل تلك الفترة إلا أنهم يعون أن الزمن تغير ولم يعد يستطع النظام أن يمارس وحشيته السابقة بحقهم على الملأ وأمام العالم كما حدث مع الأخوان وغيرهم من معارضي اليسار السوري. وهكذا يكون الإعلان قد مثل خطوة متقدمة من ناحية واحدة فقط هو القول بتغيير النظام وبالتالي كسر تابو الخوف أمام جمل من هذا النوع كان يهاب الاقتراب منها كل معارضي الداخل وبعض معارضي الخارج.


وقد جاء الإعلان مشتملاً على صيغة (وصياغة) المحاصصة وليس التمثيل، وهي مسالة غير مهمة في هذا السياق لأنها تعبر عن هشاشة الواقع السياسي السوري وفاعليته الوطنية، وهذا الأمر لايخص سوريا وحدها بل كل الدول التي حكمتها أنظمة شمولية طاغية، لتشكل هذه المحاصصة العثرة الجدية الأولى في فاعليته «الوطنية»‏. وقد ثبت لاحقا عدم أهمية الإعلان على الأرض فهو لا يزيد في أهميته الواقعية عن أهمية أي بيان آخر من سيل البيانات التي اعتادت (المعارضات) إصدارها كلما دق الكوز بالجرة! والتي ترتفع وتيرتها وتنخفض بحسب استرخاء القبضة الأمنية للنظام وتشديدها، وذلك فيما يخص معارضي الداخل.
وإذا كان الإعلان هو مسألة «خطابية»‏ في ترجيعة صداه الأساسي، فإن أهميته لا تكمن في صياغته ولا في القوى المنضوية تحته لأنها قوى ليس لها وجود فاعل وحركي على الأرض، بل في الخطوة التي مثلها في الحديث لأول مرة من دمشق عن «تغيير النظام‏»‏ ديمقراطيا وسلمياً!


وقد استعاضت ( المعارضة ) السورية عن وجودها الفاعل على الأرض (الذي تحكمه ظروف موضوعية وذاتية) بالوجود الإعلامي (الفاعل) فقد وفر لها فضاء الانترنت وجودا آمنا وكذلك وفرت لها وسائل الإعلام الأخرى من فضائيات وصحف حضور صوتي وكتابي يوحي لمن لا يعرف سوريا أن النظام يوشك أن يسقط بعد قليل؛ فوجودها الفاعل على الانترنت؛ يجعل من يتابعه يعتقد أن النظام قد تحطم! وسيظن من يقيم في أستراليا مثلا أنه لن ينهي قراءة الخبر الذي «بيده»‏ أو المقال إلا ويقرأ على أحد المواقع النتيه (إن لم يكن لديه فضائية العربية أو الـ ANN) خبرعاجل: سقوط النظام السوري...
ويلاحظ المتابع أن كل المحتوى السوري على الانترنت هو محتوى معارض ولا وجود للنظام إلا عبر أشكال هامشية لا يمرها احد، وقد التفت النظام إلى هذا الأمر في الفترة الأخيرة فحجب كل مواقع الانترنت والصحف التي لا توافق مسيرته النضالية.


وقد كان لافتاً في الإعلان الدمشقي انه دعا كل أطياف المجتمع بما فيهم البعثيون و... إلا أنه ونتيجة لـ «شخصنة»‏ الوعي السياسي والتي تؤدي في الغالب إلى هزاله وتغييبه لدى القوى التي يمثلها أو تمثله على الأرض شهد نكوصا مريعا في أول اختبار عملي لطروحاته وهذا يشكل مدخلاً مناسباً لاختبار فاعلية هذا الوعي لدى المعارضين السوريين فهو «وفق مقاربة متجنية إلى حد ما»‏ لا يتشكل في الغالب إلا عبر ذات «المعارض»‏ ولا يتخيل (غالبية) المعارضين السوريين أي تغيير لا يمر عبرهم بشكل فردي، وهذا أحد موانع تشكل أو تشكيل حركة معارضة حقيقية وفاعلة. وإذ لا يمكننا أن ننفي عن أي سوري صفة «الوطنية‏»‏ بما فيهم رجالات السلطة وأمن النظام، فإن المعارضين السوريين هم وجه آخر للنظام في علاقتهم بهذه الوطنية والفارق هو المحتوى، ففي حالة السلطة يتم ربط الوطنية بمدى الارتباط بجهاز السلطة والولاء له في ربط ميكانيكي لمفهوم الوطن ودمجه مع السلطة، وما يفعله المعارضون لا يختلف من حيث الجوهر مع هذا، إذ في غالبيتهم يربطون الوطن (القادم) برؤيتهم وتصورهم لحاله، كي لا نبالغ ونقول برؤية فردية ذاتية أو«جماعاتية»‏ مصلحية، لمشروع الوطن «تحت التأسيس‏»‏

انشقاق جناح خدام اختبار أول لـ (المعارضة):
تعرض الإعلان لهجوم شديد واتهم بالطائفية والـ... خصوصا من كتّاب اعتبروه إعلانا (سنياً) بالدرجة الأولى وقد كالوا هذه التهم تحت مسميات غير طائفية بل وضعت تحت شعارات وطنية! وكيل له أيضا انتقادات من بعض النخب الكردية وكانت المناقشات تتم للبيان نفسه ولجمله وصياغته..
ولاعتباره (من وجهة نظري) عديم الأهمية على الأرض، كذلك بصياغته وبجمله وبما أراد قوله باستثناء جملة واحدة هي مجاهرة القول بتغيير النظام؛ فان مناقشة البيان غير ذي جدوى ونرى أن انشقاق عبد الحليم خدام واليات تعامل المعارضين مع هذا الانشقاق، يصلح مدخلاً لتدقيق واختبار أهميته وكذلك انسجامه مع طروحاته.


فقد استقبل المعارضون السوريون انشقاق خدام بفتور شديد وتحدث بعضهم أن انشقاقه جاء نتيجة فقدانه لمنصبه وامتيازاته وعليه فانه شأن شخصي وتذكروا تاريخه الأسود داخل النظام وذكروه به.
المقاربة الأولية - والتي ذكرتها في مقال سابق- للمعارضة السورية تجعل قارئها يرى بوضوح أنها ذات عقلية استاتيكية لاتدرك «عملياً»‏ مفاهيم العمل السياسي التغييري! وهذا واضح عبر كل تاريخها، بل إن التبصر في تركيبة هذه المعارضة سيجعلنا نكتشف أن غالبية المعارضين هم مثقفون( الأخوان خارجاً هنا) دخلوا إلى السياسة بأدوات المثقف (على ما قال ياسين الحاج صالح عن نفسه)، وهذا نتاج الفقر الذي أصبح مزمناً في إنتاج «السياسي‏»‏ خارج كتل المثقفين. لكن أولويات المثقف في تناوله للشأن العام تختلف عن أولويات السياسي، إذ أنه في العموم يجنح (أي المثقف) لتغليب الموقف الأخلاقي - المستند إلى جذر ايديولوجي- وإعطاءه الأولوية على الموقف السياسي. فالموقف الأخلاقي الذي يرضع (في منطقتنا) من حليب الايديولوجيا ثابت زمنيا إلى حد كبير ولا يشهد تحولات مفاجئة بينما الموقف السياسي متبدل ويستند إلى الواقع والوقائع المؤثرة فيه، مكتسبا شرعيته من تمثل هذا الواقع وتمثيله. وقد تم تلقي موقف انشقاق خدام من هذا المنظور الأخلاقي ممتزجاً بمخاوف «مصلحية»‏ سواء مع السقف المسموح من النظام لتحركهم، والذي تشكل عبر عرف صامت أحياناً، وأحياناً أخرى عبر اتصالات بين النظام وبين المعارضين، أو تلك المخاوف الشخصية من «حصة‏»‏ التغيير بعد دخول لاعبين جدد يعتقد بتأثيرهم وبالتالي سيكون إدماجهم مع(المعارضة) هو تنازل عن جزء من «الحصص‏»‏ القادمة والتي يقوم عليها بناء الموقف المعارض في غالبيته كما أسلفنا. وإذا كان الموقف الأخلاقي ليس مثلبة ولا مذموم كذلك، إذ أن كل فرد يتشكل لديه وعي ما، سيبني موقفا أخلاقيا من اليوم والأمس والأخر والأفكار وجاره و.. الجرائم التي حدثت وتحدث. لكن الموقف الأخلاقي قد لا يمكن سحبه وفق آلية هندسية ليتم تطبيقه في وأثناء الاشتغال السياسي، خصوصا في لحظاته التغييرية التي تتطلب مساومات وتوافقات وحتى تجاهل وتناسي بعض الجرائم والمآسي لبعض القوى (المعارضة)، وكذلك الناس.


وإذا كانت (المعارضة) أعلنت أن هدفها هو تغيير النظام، فعليه سيكون منطقيا أن يستوجب هذا الموقف يستوجب أن تنتج أفكارها ورؤاها حوله ( أي التغيير) وتتحالف مع أي ظاهرة جديدة تتيح لها أن تقترب من هذا الهدف، إذا كانت الأهداف المعلنة هي نفسها التي يتم العمل عليها جهرا وسرا.
وإذ كانت رغبة النظام إبّان انشقاق خدام أن يدينه الجميع ويهاجمه فان (المعارضة: الداخلية) اكتفت (كحل وسط) أن لا ترحب به فقط، وهو يوضح من جهة علاقتها بالسقف ومن جهة أخرى مدى أهميتها كقوى تغييرية منفصلة عن النظام

21‏/04‏/2009

الرحيل إلى المجهول ـ تدمر



لا أعرف كيف أنتهى الضرب والجلد.. كما لم أعرف كيف فكوا وثاقي.. أومتى نزعوا الدولاب من حول جسدي والمرسة والقارس من حول كاحلي.
لم أعرف متى أنتهوا مني.
لكني أعرف أنهم كانوا متفانون في عملهم إلى أبعد الحدود من خلال أبدانهم المرنة ومهاراتهم العالية في التهشيم وأسلوبهم المحكم في قلب الطبائع والاستئثار بالروح وتهميشها.
بعد أن أنتهوا مني تركوني لشأني.. لجراحي العميقة. لم يعد أحدهم يعرني أي أهتمام.
تركوني مرمياً على الأرض تحت أقدامهم.
بعدها.. علمت إنني وحدي أئِنُ.
جنون الألم تسلل إلى حواسي كلها.. فرش زاده على مساحة الأهداب الدموية النافرة من جلدي المشروخ, كان هذا الجنون قريباً مني.. نائماً على فوهة بركان راقد, في لحظة تحفزه العالية, ناشراً القشعريرة الموجعة فوق وسائد الحيرة ومواقد القلب والروح.
لم يبق مني إلا صوت الأنين الممزق الخائر. أنين مبحوح.. مخنوق. أنين رخو وضعيف يخرج بشكل متقطع من حنجرتي بخواء متعرج ناء.
حواسي كلها مشدودة إلى هذا الطيف اليقظ القادم على الوسائد المطوقة بالوجع والألم.
بقيت مسمراً في مكاني كالتائه السكران, لا يعرف ماذا يفعل, ولا يستطيع الحركة والمشي. لم أستطع أن أقف على قدمي. كانت أقدامي في حالة خدرغريبة. تنمل. كأن ملايين من النمل انزلقت بغتة على قدمي, جاءت على شكل أسراب من مكان ما وأستقرت في عقب رجلي. أحسست أن الطبقة السفلة منها لم تعد ملتصوقة بجسدي, كأنها قطعة لحم مفصولة عني.
جلست على مؤخرتي لا أقوى على حمل جسدي. كل شيء فيّ يرتعش. حاولت أن أمسك قدمي لكني لم أحس بها. كانت قواي خائرة تماماً.
لم أكن أدري أن جسدي لديه كل هذا المخزون المخبأ من الألم.. وهذه القدرة على أختزان الوجع ونشره في كل مكان مني
لم أستطع المشي. رحت أزحف على مؤخرتي, منعكفاً مرة داخل روحي المتعبة, وأحبي مرة أخرى, متكئاً على يدي وركبي. أمد إحدى ركبي إلى الأمام مستنداً على راحة كفوف يدي ثم أتبعها بأخرى, بينما أقدامي في الهواء لا اتركها تلامس الارض من كثرة الألم. بهدوء.. قليلاً قليلاً, أمد الخطا على الركب, فتتسلل الرمال الناعمة المذببة إلى جلدي. تتسلل من الأطراف النافرة, لتستقر في طيات جلدي.
في مسيرتي الطويلة, أسمع صوت أنيني كموسيقا مهتوكة الأوصال, مرمياً على بيادرصدئة. صوت يرتطم بالجدارفيرتد علي. أتابع مشواري. الهث واتاوه وأتابع بالرغم عني. أكاد اتقطع من الوجع. تابعت سيري الطويل إلى أن وصلت إلى قرب الجدار. بهدوء.. وهدوء. بهدوء وتأن. رويداً.. رويداً مددت أصابعي المرتجفة على الجدار. فرشتهما ببطء وتركتهما يتعرشوا كشجرة مكسرة القامة, متمايلة الأغصان والفروع. متهالك بتمامه. لكني أريد الوقوف. استندت على الجدار الأخرس, ثم فرشت يدي المرتعشة عليه. في البدء رحت أتحسس قدرتي.. قدرة جسدي على حملي. بدأت ارتقي قليلاً قليلاً في محاولة البقاء واقفاً، لكني لم أستطع. عدت ثانية للجلوس على مؤخرتي أنقب الرمال التي علقت بين, وفي الجراح في عقب قدمي وداخل اللحم المهروس.
أسئلة كثيرة تتوارد في خاطري في تلك اللحظات.. تبقيني في حدود السوداوية والصمت المطبق.
رحت أقول للزمهريروالصدى والهواء:
ـ آه.. يا أماه.
لماذا أنجبت مولودك في بلاد الوجع والخوف.
أية سعادة كان يحملها قلبك بين كفيك حين حلمت بمولود تنتظره المواجع. هل كنت تعرفين أن بلادنا بلادعابرة للمتاهة والسراب.. والقوافل الراحلة. بلاد مفتوحة على الريح والضباب والموت المنقوش على السلالم المعوجة والأغصان المكسرة. بلاد مفروشة على أكوام العواصف والهبوب المتناثرة المرمية هنا وهناك. لماذا كنت تظنين إنني مولود من الحب. بعدها إلى أين كنت تريدين أن أقف. على أي رصيف من أرصفة العمروفي أية لحظة من لحظاته سأقدم كقربان مدمس مسفوح الدم ومهتوك الروح والقلب مثل سنبلة جافة. هل كنت تعلمين على أي قربان من القرابين كنت سأمدد. لماذا بقيت يداك مرفوعتان إلى السماء تناجي أن يخففوا عني أستباحة دمي أمام قدميك. كنت تعلمين يا أماه أنني ولدت على الجمرالمشوب بخضرة عينيك.. أشتعل بينهما مطوق الساقين والقلب. إذاً.. لماذا كنت تبكين ما دمت تعرفين إننا قرابين منذورة للسماء والماء والأرض والتراب كما للطلاسم والظلمة السكرانة والضياع.
وقتها..
أحسست أن جذوري مقطوعة وأنني في مهب الريح.
بقيت مسمراً على الأرض، أفتح فمي على وسع، استنشاق المزيد من الهواء, اشهق وازفردون أرادة مني. أحاول أن أرمم النفس الغائرة في البعد. لم أعد أحس بالعالم المحيط بي. نسيت رفاقي وأصدقائي الذين ينتظرون وجبتهم المرصوفة على عمامة الصباح الباردة.. ينتظرون موقد النارالتي ستشتعل في وهاد أجسدهم الغافية.
حالة أشبه بالغثيان والهذيان المكثف, غلفتني, تركتني بعيداً عن حالة الوعي.
استدعيت لحظات الهم قافزاً
قلت:
كنت في مضافة الوجع..غريباً. لم أعد أحس بالانتماء إلى شيء.. إلا إلى الألم.
تركوني وحيداً. لم يعد يلتفتوا إلي, مضوا ينشغلوا بغيري.
كان الصمت ثقيلاً.
زوبعة من الصدى النافذ حركت ذاكرتي التائهة أعادتني إلى جدول الحياة.
في استقالتي عن الأشياء المحيطة بي.. في استلقائي على الأرض المتعبة, رأيت وجهوه متشابهة للجلاد.
وجه واحد.. وجهان.. أو ثلاثة.. أوأكثرلا أدري.. ربما عدة وجوه. لكنها كانت وجوه متباعدة متداخلة ومكثفة في وجه واحد. وجه ضخم للغاية, له أنف عملاق, حاجبان كثان مثل أقواس الأفق المخضبة بالدم الخائب.
عيناه صغيرتان غائرتان في جمجمته الصدئة كالوديان العميقة القاحلة. فمه الكبيركجبل أجرد لا نبتة عليه ولا شجرة, أما أسنانه فقد كانت صفراء مائلة للسواد, بشرته متغيرة ومتبدله حسب الطقوس والمكان . فمرة رمادي ومرات أخرى سمراء داكنة أو سوداء معتمة. أما جسده فقد كان مشوه الخرائط . في كل مرة يبدو الجلاد في لون وشكل. في هذه الأجواء, في طقوس الصباح الكانوني البارد كان وجهه ممتقعاً مائلاً الى اللون الأسود. لم يكن له إلا جسد متأكل دون تراسيم متناسقة.
كان الجلاد في لحظة الشبق العليا حاراً.. لحظة ألتحامه بنفسه.. ماسكاً صمته بيده.. أدوات تعبيره عن ذاته.. أدوات بقاءه.
لم أرالعصافيرفي هذه السماء.. كما لم أسمع صوتها.
فرت وهربت إلى أطراف أخرى من عمارة العالم.
بالتأكيد أنها تزقزق في مكان ما من هذا العالم, تطيربعيداً عنا, تسخر من الألوان الداكنة والوجوه الرمادية النافرة. ربما أقول.. ربما تمرمن حولنا, لكنها لا تحط على أشجارنا وجداولنا. تطيرفي أهداب السماء الواسعة, تسرح ترحل إلى مكان انزلاق الضوء الشفيف والألوان الفضفاضة والمبهجة من أجل أعلان بوحها للفضاء الواسع والجمال والتمدد.
فتحت فمي مرة أخرى من أجل تمريرغروية الوجع وحرارته عبر اللسان والفم.
أحّسست بالوحدة للحظات وبالحرية أيضاً.. قلت في نفسي:
لقد ثملوا مني. لن يهتموا بي, لقد تركوني، أنهم مشغولون بغيري. لاشيء يشغلني إلا البحث عن استراحة الألم التي ترافقني وتبحرفي مرافئ حياتي. وجهي يلاصق كياني, مرتقياً سلالم المنفى والغربة. التحم بالدماء النازفة السائلة مني على الارض العطشة بهدوء ومرارة.
بأنين أخرس تمتصه الجدران وتطمسه ذاكرة الايام زفرت عباءة الليل الذي تزين ستائرالنجوم.
اتأوه وحدي من النار الكاوية التي ارتدتني.. والتي بقيت تلاحقني. ادحرج الزفيرالمتصاعد مني.. زفرة وراء زفرة إلى خارج مسامات جلدي. قوة حمقاء قبيحة تنبثق من داخل استراحة الوجع وتتفجر كشلال جارف، مفضية إلى طريق طويل.. طويل للبقاء في سريرالزمن. شيء ما كان يهرب معي.. يريدني أن أبقى في ملامحي القديمة وسنونه المأسورة.
حملت نفسي المتعبة كأنبعاث ميت.. كأمتعة ثقيلة, منطوياً على نفسي, كصرة مصرورة في كيس صغير, ملفوفاً من كل الجوانب إلى أن سرت بعيداً.. رحت أهرب وأهرب.
نسيت كل شيء.. الكون والعالم ورفاقي والشرطة.
تحولت إلى طائرفينيقي طليق، يحلق فوق أجنحة الوجع, يلامس الأهات الخارجة من أتون الدم، ملتصقا بنفسي كأفعى جريئة تلتف حول نفسها وتسبح في عينيها السارحتين فوق الضباب.
عدت مرة أخرى إلى المكان المحاط بي, كأنما أفقت من حلم, اتلمس لفائف بقائي على الأرض الباردة. أبلع ريقي الجاف ممعناً النظرفي الحرارة الصاعدة من لهيب الجسد والعذاب الذي لاحقني. من النار التي تلفحني من كل مكان. مسمراً في طرق الارتعاب، متخذاً تعابيراً متناقضة .
بنظرة خاطفة وسريعة كأنها البرق.. دخلت في وديان اللأشعورمني فوجدت بقية رفاقي وقوفاً على موازاة الجدار, رؤوسهم وعيونهم مطرقة في الارض, خائفون, يسمعون ويصغون إلى صوت الكوابل وهي تلسع أحدهم.
أنهم ينتظرون مصيرهم الذي لا فكاك منه. كل واحد ينتظرعبوره إلى الضفة الآخرى بفارغ الصبر. شعور صعب وقاس ومؤلم للغاية.. أنتظارلسع البرق على الجسد الأعزل. كل لحظة تساوي دهراً.. تبقى الأعصاب ساهرة يقظة تراقب أدق التفاصيل. مع كل كبل ينهال على القدم, يرافقها انكماش واستنفاركامل.
ربما لا أحد يعرف هذا الشعورالمتعب والمرهق إلا الذي جرب القذى والمرارة.
بالتأكيد أن دقات قلوبهم تتسارع في صدورهم.. متحفزون, يشربون الصباح البارد مراً كالعلقم.. مراً كومض كئيب.. ومض ثقيل.
كان بجانبي رفاق وأخوة وأصدقاء. قضينا مع بعضنا في السجن, زهرة أعمارنا, سنون طويلة, نعرف بعضنا في أدق التفاصيل. نعرف مشاعرالخوف أوالحب أو الكره التي تنتابنا. لحظات الحزن أو الياس أو القهرالتي نحس فيها لفقد صديق أوعزيزأوأب أو أم أو أخ. كنا مع بعضنا أقرب من الأهل لبعضهم لأننا كنا في محنة واحدة قاسية وأليمة. رحلة كفاح طويلة ضد الاستبداد والحكم الفردي الكريه. عندما كان يجلد أحدنا, أويضرب على وجهه, نحس بسيول الوجع تتشبث بصدورنا وتدخل في مسامات جلدنا وأفئدتنا.
الجلاد حافظ الأسد, مثله مثل كل الجلادين في العالم, لا يميزبين زيد أو عبيد من الناس. كل مخالف لسلطته الداشرة هو عدومحتمل له, لا فرق لديه بين مسيحي أومسلم.. شيعي أو سني.. درزي أوعلوي. الجميع أعداء تحت الطلب إلى أن تثبت براءتهم. أليس هو القائل:
من ليس معنا هو عدونا.
إنه الزمن الذي يجنح نحو الضلال في أوقات كثيرة, ينبش من بين مخالبه الطويلة أشواك سامة, تقرص لون الشمس, تدمي وتحرق الوجوه الجميلة والنيرة. زمن يطمس في ذاكرته كل الأحمال والأسفار.
لكم تخيلت هذا المسمى الرئيس حافظ الأسد, وهوممسكاً السوط أوالكبل أوأي أداة من أدوات التعذيب في يديه, وهوفي كامل هندامه المستورد, يعذب ضحاياه من كل الألوان. هذا الصنم المقرف القائم فوق أحلامنا, سارق الجمال والحرية والدفئ من ليالينا الطويلة. لقد تفنن هذا الهمجي في أبقاءنا نعيش تحت رحمته في أقسى الشروط.
هناك على مقربة بسيطة مني, رجال مطويي العزيمة, مكبلون, يخلدون للصمت الجرار, يحيون في أقسى الظروف من أجل أن يحيا الانسان كأنسان. يدفعهم الغضب من الحاضرالمرللعمل من أجل مستقبل أفضل. كل واحد لديه دزينة من المشاكل الصحية, نتيجة المدد الطويلة في السجن. كلهم واقفون بوجوم على الجدار في أنتظاروجبة الجلاد الصباحية القاسية.
كان عماررزق في الثامنة والعشرون من العمر. لديه مشاكل في القلب, بالإضافة إلى الروماتيزم. كانت الأوجاع ترهقه.. في الركب والمفاصل وأصابع الأقدام. كانت أقدامه وخاصة عند الأصبع الكبيرة, تزرق أغلب الأوقات, من تكثف الدم وتخثره في الرؤوس والنهايات العصبية, مما كان يجعله هذا الأمريصرخ بصمت من الألم, يتأرق الليل كله. تحت الضغط الذي يغلفه. والبلية الكبرى كانت أصابته بالانفلونزة في هذه الأوقات القاسية, يسعل طوال الوقت. كنت أقوال أي قدر سيسعفه على البقاء:
ـ كيف سيتحمل جسده هذه المشقة والشدة التي أمامه. مواسم طويلة ناضحة بالمرارة تنتظره كما تنتظرنا تحتاج إلى أجساد سليمة, قادرة على التحمل, لأننا بين يدي أوغاد ومجرمين, لا يعرفون معنى أن يكون للأخر حق في الحياة والحرية. كنت أسمع أنينه الذي يقطع نياط القلب والروح. آلام الروماتيزم في المفاصل لم يكن بالشيء الذي يمكن للمرء أن يتحمله بدون وجود مسكن أو دواء يخفف الوجع. مرات ومرات أحس وأرى كيف تسيل دموعه من عينيه, وهولا يستطيع الحركة, لخوفه من جلده في اليوم التالي. عندما يجلد أحدنا نبقى في حالة انطواء نفسي وانفلات داخلي مثل انسحاق الروح وإنكسارها التام. هذا الأحساس المؤلم يسبب الأذى النفسي الطويل للآخرين من رفاق وأخوة في المهجع.. بالرغم من أن عملية الجلد تتم دون أي سبب.
كان عمار صبوراً جداً, يبقى طوال الوقت مكوماً على نفسه, يمتص صراخه, ويبقيه في حلقه, ليرتد على روحه, فتبقى حياته ما بين السوداوية والقلق, والخوف من الغد الغامض. أشياء تدوخ وتذيب العظام في الرأس من هذا اللعاب المختلط ما بين الجفاف والأمل المكتوم.
هذ المرض المستيقظ دائماً, يجعل الجسد مثل الشواء الساخن على مواقد الحطب, منطوياً, يستفقد البقاء في وضع سليم.
طوال الوقت, تراه يجمع الخرق, أوبعض الأقمشة المتوفرة, ويلفها حول ركبه, من أجل أن تبقى دافئة في الشتاءات الباردة, وفي الليل والنهار الصحراوي البارد, لأنعدام التدفئة والحرارة في الشتاء, وعدم توفر السوائل الحارة أيضاً. في هذا السجن الخطير, لا تتوفر أية سخانة أو نارأو أية وسيلة من وسائل التدفئة. لذلك لم يكن لدينا ألا الثياب على قلتها من أجل حمايتنا من البرد والمرض.
عبد الله قبارة في الثالثة والستين من العمرولديه قصورعضلي في الساق بالإضافة إلى مرض السكري. لم يكن يستطيع الجلوس على الأرض أو يستطيع المشيء بشكل طبيعي.
مصطفى حسين في الستين من العمرومريض بالانفصام/ علامات المرض الواضحة بدأت معه بعد أسحاب الجيش العراقي من الكويت في أذار من العام 1991/ وأمراض متعددة لا يبوح بها لأحد. أوجاع في اللثة والأسنان وديسك في الظهروأوجاع في الركب والمفاصل. كان كتوماً جداً لا يعلن عن مرضه ولكنها في لحظات الوجع المستنفرة يقولها بالرغم عنه.
كان مصطفى لديه أحساس أن السلطة أخذتنا إلى سجن تدمرمن أجل تخويفه أوأدخال الرعب في قلبه. لم يكن يصدق أن قافلة الوجع حقيقة ساطعة. كنت أقول له في لحظات القهر الشديدة:
هل تظن يا أخي أنهم يجلدونا من أجل أن تخاف. ينظر إلي ساخراً ويحرك رأسه ولا يتكلم علامة على أنني فهمت ما في داخله من وساوس وأوهام. أرد عليه وأقول:
ما دامت السلطة أخذتنا إلى هذا السجن من أجل أن تخاف لماذا تخفف عنك الضرب/ كان وزنه لا يتجاوز الأربعين كيلوغرام, ربما لهذا السبب كانوا يضربونه أقل من غيره/. ينظر إلي ويبتسم بسخرية مرة, مرة أخرى.
مع هذا لم يراعوا مرضه وكبر سنه وعجزه وخوفه وأبقوه مدة ثمانية أشهرأضافية على حكمه المقررة من محكمة أمن الدولة. لقد بقي في السجن خمسة عشرة عاماً وثمانية أشهر. تنقل خلالها من التحقيق في أدلب إلى سجن أدلب, ثم سجن الشيخ حسن في دمشق وبعدها سجن عدرا وأخيراً سجن تدمر السيء السمعة. لكنه كان منضبطاً في هذا السجن, لخوفه الشديد من تصفيته, لذلك لم يبد أي مشكلة تذكرمع أحد, وبقي معنا في هذه الأجواء المخيفة مدة سنتان ونصف السنة.
لقد خرج من السجن تدمرفي 8/6/1998
كان مصطفى حسين يحتاج إلى العلاج من عدة أمراض. علاج طويل ومكث بدلاً من أبقاءه في السجن. لكنه حافظ الأسد بنظامه وسلطته وعائلته القذرة. لم يتركوا حرمة لشيء. لم يتركوا وسخة أوقذارة لم يفعلوها هؤلاء الحثالة. /مازالت سلطة حافظ الأسد قائمة عبرأولاده وعائلته الكريهة. ما زالت هذه السلطة القذرة تسجن خيرة أبناء بلادنا, لأبسط الأشياء, مثل المكالمة الهاتفية التي أجراها فائق الميرمع أحد النواب اللبنانيين والتي كما يقال ستؤدي به إلى المؤبد أو أكثر. مثله الدكتور عارف دليلة ومحمود عيسى وميشيل كيلووغيرهم.. القائمة طويلة وتطول ولا تقصر.. لا لسبب أقترفوه وأنما لرأي حملوه في رؤوسهم/.
محمد خير خلف لم يكن يتجاوز وزنه الخامسة والأربعين كيلوغراماً. لديه أوجاع مزمنة في المعدة والكولون.
مثله عبد الكريم عيسى ويوشع الخطيب وصفوان عكاش وبكرصدقي. بينما عمر الحايك كان جلد قدمه يتقشربأستمرارمن الأكزيما والألتهابات الجلدية الصعبة والمؤلمة.
يتبع..

15‏/04‏/2009

فلتان السلطة


ما يجري في الأسواق حالياً ليس مجرد ارتفاعات في الأسعار، بل هو فلتان بكل ما لهذه الكلمة من معان! لا ضابط أخلاقياً له، ولا وازع دينياً، ولا سلوك مجتمعياً إيجابياً، ولا رقابة فاعلة، حتى يكاد يصح القول في أسواقنا إنها صارت (أسواق كل مين إيده إله)! والخوف يتعاظم بين الشرائح الاجتماعية من ذوي الدخول المحدودة لا من استمرار هذا الفلتان فقط، بل من اتساع دائرته ليشمل سلعاً أخرى قد يكون بعضها أساسياً! ولا سيما إذا رُفِعَ الدعم عن المازوت مثلاً!
نتابع اجتماعات، ونقرأ عن إجراءات، ونسمع عن قرارات، لكن السوق على ما يبدو في وادٍ آخر، لا يتابع أصحابه شيئاً، ولا يقرؤون، ولا يسمعون إلا ما يريدون!
أوْقفوا تصدير بعض السلع على الرغم من ضرورة التصدير، لكن الأسعار لم تنخفض!
عُلِّق ارتفاع أسعار بعض السلع على مشجب التهريب، وكأن التهريب جديد ولم يكن قائماً! والمواطن يسأل: ماذا بعد؟! وما هو بعد قد يكون أسوأ! ونضيف إلى سؤال المواطن سؤالاً آخر هو: ضبط الأسواق مسؤولية من؟! هل هو مسؤولية الحكومة؟ وتحديداً مسؤولية الحكومة وحدها؟! أم هو مسؤولية عامة تتقاسمها مع الحكومة بعض هيئات المجتمع، ولا سيما غرف التجارة والصناعة؟!
ومسؤولية غرفة الصناعة والتجارة لا تنفي، ولا ينبغي أن تبرر تقصير الحكومة، وغيابها عن الأسواق غياباً شبه كامل، وإن كنا نسمع أو نقرأ خلاف ذلك، لكننا نعدُّها غائبة، ما دامت لم تستطع أن تضبط الأسعار عند حدود معينة ومقبولة وفي متناول الشرائح الاجتماعية المحدودة الدخل، ونعني بهم العاملين في الدولة ومؤسساتها وإدارتها الذين لا مورد لهم غير رواتبهم!
أم هو تحرير الأسواق والاقتصاد! هذا التحرير الذي يلغي كل دور للدولة في تحديد الأسعار؟! هل ندعو لعودة صالات الخضار والفواكه واللحوم على نحو أو آخر؟! هذه الصالات التي عرفناها وقت الضيق وقلة الإنتاج والأيام العصيبة؟!
كل اقتراح هنا يبدو غير مهم لأنهم لن يأخذوا به في ظل ما عرفناه، وأسموه تحرير الأسعار الذي يتطلبه اقتصاد السوق الاجتماعي! لذلك أعود إلى سؤال طرحته قبل أسطر عن مسؤولية غرف التجارة والصناعة، أم أن هذه الغرف لا دور لها في ظل اقتصاد السوق سوى تحقيق المكاسب لأعضائها وأفرادها والقطاعات المعنية بها؟! وهل يدرك قادة هذه الغرف، وأصحاب السوق أن استمرار الارتفاع يولد ركوداً في السوق، وانكماشاً سينعكس عليهم لاحقاً؟ أم أنهم سيدفعون أصحاب الدخول المحدودة إلى فساد وإفساد يعيشونه ويمارسونه لتأمين دخول إضافية تعينهم على تلبية احتياجاتهم؟! ولا أعتقد أنه ما زال خافياً على أحد أن الفساد لا يزال مستمراً، بل صار في بعض القطاعات وعند بعض الأفراد علناً، وفوق الطاولة!
ثم ألا يدرك من يعنيهم الأمر إلى أين يمكن أن نصل إذا استمر هذا الفلتان في الأسعار والأسواق، والذي وصل إلى قطاع العقارات والسكن؟!

09‏/04‏/2009

حكام دمشق يَخافون من محكمة: لأن نظامهم كرتوني..!


بات واضحا لكل عين بصيرة أن المعارضة اللبنانية تصعد من مواقفها ،داخل الشارع وفي الإعلام، لحماية حلفائها حكام دمشق من المثول كمجرمين داخل قفص المحكمة الدولية. أما ما يقال عن رغبتها المشاركة في الحكم بما يتناسب وحجمها السكاني، إنما هو اختباء وراء الهدف الرئيس وهو إنقاذ حكام دمشق من مثولهم أمام محكمة تقتص من المدانين منهم لمن قُتِلوا في لبنان غيلة وغدرا، هذا إذا سلمنا أن أطراف المعارضة ،كلهم أو بعضهم، خارج دائرة الاتهام، أو خارج دائرة التواطؤ، وهو ما يحتاج إلى بينة ودليل.
ما قلناه آنفا يقترب من الحقيقة حتى يكاد يلامس اليقين كعين الشمس في رابعة النهار، ولا يحتاج إلى كبير جهد ذهني لتأكيد خوف حكام دمشق من المحكمة الدولية بعد أن عرضت قوى 14 آذار أن يتم اعتماد المحكمة الدولية مقابل التنازل عن الثلث المعطل أوالضامن، وأن يتم التوافق على القضيتين بالتزامن في وقت واحد، وهو ما وافق عليه نصر الله بعد مقابلته "عمرو موسى" الأولى، ثم تراجع عنه بعد زيارة "موسى" إلى دمشق.
فليس سرا أن نظام الرئيس الراحل "حافظ أسد" لم يتورع عن اغتيال السوريين سرا وجهرا ،داخل سورية وخارجها، إفراديا وفي الجملة، إلى الدرجة التي يحق للمؤرخين أن يسموه "نظام القتلة". شجع النظام على ذلك سكوت أمريكي مريب عنه وصل حد التواطؤ، خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين.
وإذ شعر حكام دمشق أنهم فشلوا في إقناع الشعب السوري بالقبول بهم حكاما، لأنهم جاؤوا إلى السلطة بانقلاب، وإنهم لا يستطيعون البقاء في السلطة في جو ديموقراطي، لأن طبيعة حكمهم واعتمادهم على القمع يتناقضان مع مفردات الديمقراطية من شفافية وتعددية وتداول للسلطة عبر صناديق الاقتراع، كل ذلك وغيره مما لا يتسع المقام لتفصيله، جعل هؤلاء الحكام يفضلون الأساليب القمعية من تسريح تعسفي واعتقال ومصادرة أموال. ومَنْ لم يُجْدِ معه الأساليب السلطوية الاستبدادية، تم اللجوء معه إلى التصفيات الجسدية داخل المعتقلات كما حصل في سجن تدمر، أو في وضح النهار أثناء عمليات تطويق المدن حيث يحاصر أهل الحي ويطلق عليهم الرصاص، كما حدث في صبيحة عيد الفطر عام 1980 حيث كانت الفرقة الثالثة التي يقودها العميد "شفيق فياض" تمشط أحياء حلب. ففي حي المشارقة في حلب كان أكثر من 100 مواطن يزورون مقبرة "هنانو"، حوصروا وتمت تصفيتهم، ومنهم الأستاذ الجامعي في كلية الهندسة الدكتور البعثي "عبد الرزاق عرعور".
ولأن بعض معارضي حكام دمشق، - شارك بعضهم في الحكم ثم اختلف معهم- استطاع الإفلات ولجأ إلى دول الجوار أو أوروبا، فقد تم تعقبهم حيث لجأوا، ومن ثم تم اغتيالهم. فمن الذين تم اغتيالهم -على سبيل المثال لا الحصر- اللواء محمد عمران وزير الدفاع في حكومة رئيس الدولة أمين الحافظ، حيث تم تعقبه إلى بيروت واغتيل فيها عام 1972 .كما تم في باريس اغتيال صلاح البيطار رئيس أول حكومة بعثية بعد انقلاب 8 آذار 1963 الذي جاء بحزب البعث إلى السلطة، لأنه كتب مقالا عام 1981 هاجم فيه نظام حافظ أسد لأنه استخدم العنف والأسلوب الأمني في حكم سورية.
ومن الذين تم اغتيالهم من الإسلاميين، السيدة "بنان الطنطاوي" بنت الشيخ "علي الطنطاوي" وزوجة الأستاذ "عصام العطار" المراقب العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين. فقد أرسل نظام حكام دمشق عناصر مخابراته في عام 1981 إلى مدينة "آخن" في ألمانيا وتسللوا إلى بيت العطار. ولما لم يجدوه في البيت اغتالوا زوجته. كما اغتيل المهندس نزار الصباغ في اسبانيا عام 1984، لانتمائه إلى المعارضة الإسلامية.
فإذا كان هذا هو منهج حكام دمشق في سورية منذ تسلطوا على الحكم فيها، فليس غريبا أن يعتمدوا الاغتيال السياسي كمنهج حكم ضد معارضي وجودهم في لبنان. بل إن الغريب أن يشكك البعض في التهم المنسوبة إلى حكام دمشق، التي راح ضحيتَها رئيسُ حكومة لبنان الأسبق وغيره من معارضي الوجود السوري في لبنان. فالاغتيال أسلوب الضعفاء الذين يعملون في الظلام لتنفيذ مآربهم، لأنهم يخافون مواجهة خصومهم جهارا نهارا، وحكام دمشق من هؤلاء، ما دعانا أن نطلق اسم الأنظمة الكرتونية على هكذا أنظمة.
وحسب قناعتنا فإن نظام حكام دمشق نظام كرتوني. لأنه يرفض مواجهة خصومه وجها لوجه على الساحة السورية، ولا يسمح لهم بأن ينافسوه من خلال صناديق الاقتراع. وإذا كان حكام دمشق يزعمون أن الجماهير تؤيدهم تأييدا كاملا إلى الدرجة التي يحصلون فيها على أربع تسعات في الاستفتاءات على رئاسة الجمهورية، فليقبلوا إذن بالتحدي، وليقبلوا بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع الشفافة في الانتخابات النيابية.
وهو نظام كرتوني لأنه لم يجرؤ ،ولو لمرة واحدة، أن يرد على التحدي الإسرائيلي بمثله. ولقد وصل الأمر بهؤلاء الحكام أن ترسل "تل أبيب" طائراتها لتخترق حاجز الصوت فوق قصر الرئيس "بشار أسد" في اللاذقية، فلم يسجلوا رد الفعل المناسب بأن يصدروا أمرا -بما يمكن اعتباره ردة اعتبار- إلى الطائرات السورية التي استنزف شراؤها خزينة الدولة لتقوم، على الأقل، ب "كَش" الطائرات من فوق قصر الرئاسة، لدرجة لم يجد السوريون ما يعبرون به عن خنوع حكامهم أمام إسرائيل إلا التمثل بالمثل الشعبي: " إنهم لا يَقْدِرون أن يحاموا عن ....". وليتمثل المواطن السوري بقول الشاعر: "أسد علي وفي الحروب نعامة". وصدق الشاعر الذي يقول:
لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كلّ مُفْلِسِ.

04‏/04‏/2009

حلمٌ غريبٌ في بلد إسمه سوريا


قبل كلّ شيء أقوم بجرّ حدود سوريا حتى الخليج العربي(الفارسي) _تعبير فارسي صار ضروري_, وأثبّت علامات الحدود عند جزر أبو موسى, وأجرّ إلى جانبها بعض الجبال والوديان من لبنان, ولن أنسى وضع مدينة دبي وبعض المدن والقرى المجرية في ضواحي القرنة السوداء, كل ذلك بعد نقل مزارع شبعا ومزرعة أم السبع "سبعة" إلى الجولان حتى نرتاح ونريّح لبنان.
طبعاً أقوم بكل ذلك بدون نقل أية حفنة تراب(أرض) أو قطعة بناء واحدة, فاليوم يمكن القيام بذلك في عالم "الفيرتوال" الكومبيوتري!
لكنه بهذه الطريقة لا أحقق أية نتيجة فعلية, لأن الإنسان قادر اليوم على إفساد وإتلاف أجمل المدن وتضاريسها.

لنتخيّل سويةً لو أن سكان أية مدينة سورية نقلناهم إلى مدينة دبي أو بودابست مثلاً, ماذا يستطيعون أن يقوموا به ويتعاملوا مع هكذا بلدان؟ ستنقضي عشرات السنوات _ربما أكثر من عمر التصحيح السوري_ حتى يستطيعوا تعلّم الحياة والتفكير مثل سكان دبي وحاكمها أو أهل بودابست ونظامها, ومما لاشكّ فيه أن فترة إعادة التعليم أطول بكثير من فترة هدم العلم والقيم.
بكلمة مختصرة أحب أن أعيش في سوريا حيث توجد النظافة والنظام, السلام الداخلي والاطمئنان, في نفس كل إنسان.
حيث الشعور بالمسؤولية والمحاسبة القانونية, حيث احترام القانون وحق النطق في أي مكان, بلا خوف من الرقيب ومن السجاّن, العيش في بلد يحمل الانسجام بين الطبيعة والإنسان, حيث كرامة الفرد مقدّسة, ولا مكان للكلمة المفلسة, حتى لو كانت من القصور المقدسة.
أحب أن أجلب المشافي من سويسرا مع النقود الكافية للأدوية ولعمل الأطباء والممرضات, نقود كافية للورد والحدائق وللبسمة الملائكية بين الآهات والآلام, نقود من أجل المدارس وبالضبط من أجل مراكز ثقافية حقيقية, حيث يكون المخبر والتفكير والإبداع الحر, هذه المراكز أجلبها من فنلندا والسويد, كما أجلب من أمريكا إحدى جامعاتها وكل ما تملكه من كليات سكنية للطلاب, وأساتذة وأجهزة تدريب وبحث _ وطالما هناك مجال للاختيار سأجلب جامعة هارفارد مع "دستة" من حملة نوبل للعلوم المختلفة_ وأترك هناك تكاليف قسط الدراسة والتي تقدّر بعشرات آلاف الدولارات.

لكنه من الصعب استقدام أناساً حضاريين يتعاملون ويفكرون ويعيشون بعقلية المستقبل وليس باستحضار الماضي "التليد", ربما يكون سكان كندا أو النرويج هم المرشحون لذلك.
وكي تكون حياتنا سعيدة وصاخبة أدعوا سكان نابولي وتوسكانا من إيطاليأ. ومن الدانمارك أستقدم متخصصين في مجالات الجمعيات التعاونية كي يعلمونا أن تلك الجمعيات ليست من صنع الشيطان وإنما من عمل الإله, كي تخرج مزارعنا من حفرها وجورها وبؤسها.
ونتعلم من الهولنديين وسكان الدول الاسكندنافية التعامل مع القوميات التي لم يخلقها الرب عربية, وسيكون أكثر المتحمسين لذلك الأكراد والسريان والآشوريين وغيرهم من سكان البلد الأصليين!
ونستورد من الإنكليز والأمريكان الثقة بالنفس والطموح والإيمان بأن مصير الإنسان موجود بين يديه وعليه أن يبحث عن الفرص لذلك, بدل القعود وانتظار السماء, بدل البكاء والمواء.
ولن أنسى أن أجلب من المجر مئات أو آلاف حمامات المياه المعدنية والتي ستكون وسيلة لجذب السوّاح.

كل هذا وكي لا نخدع أنفسنا في "نجاحاتنا وانتصاراتنا" حتى الآن, علينا تعلّم التواضع والتكافل الإجتماعي, وقد يكون ذلك من مدينة بروجس في بلجيكا, حيث قاموا في القرن الثالث عشر ببناء مئات البيوت للفقراء وللعجزة وللأرامل, للأيتام وللمرضى, وقاموا بحمايتهم من الجوع والبرد والعيش المنفرد.
ويمكن الاستشهاد والتعلم مما قاله سقراط _وليس فقط من زماّري البلاط_ بأن نتعلم منه كيف يمكن لنا أن ننظر في وجه الإنسان الفاني مع شقائه وسعادته بكل احترام له لأنه إنساني.
وتصبح سوريا مكاناً آمناً للاجئين السياسيين من العالم, ويتقمص إفلاطون في جمهورية الحلاّج والسهروردي في الشام.

ومقابل كل ذلك أبعث إلى مراكز إعادة التأهيل والإصلاح والإتلاف وإعادة الإنتاج لتلك البلدان والمدن, كل التماثيل واللافتات والأراجيل, وكل الأعلام الصفر وبنادق "النصر", وكل العمائم الملطخة بالدم, كما أقوم بتخريج آخر دفعة سياسية للطلائع وأبعث أطفالها إلى الروضات ودور الحضانة للعب والتسلية وعيش حياة الطفولة النظيفة البريئة,
كذلك أحرر النسوان من عقدة النقص وقلة الإيمان, وأقنع الجميع أن الله أكبر من أبو سليمان, وأن نفوذ البلطجية ليس قضاءٌ وقدرٌ في هذه البلدان.
أبعث هدايا إلى بعض حدائق الحيوان ومن كل قلبي بلا أثمان, وستكون الفائدة مشتركة حتى يعرف العالم حجم الورطة,
وتجارة الإرهاب التي تزدهر في بلاد "الأعراب", من أرض الأرز إلى الأهواز.
وأقول لهم هذا وطني يذبح وتباع دماءه في شيراز!

تخيلوا معي ما أجمل سوريا, وما أسعد ساكنيها لو حملها لنا "سانتا كلاوز" في العام القادم!