28‏/12‏/2009

لمن تُدقّ الطبول؟؟...


ستون عاماً ويزيد وطبول العرب تُدقّ صاخبة لتحرير فلسطين.

ستون عاماً ويزيد ونحن نعيش على وقع رقصة الحرب العربية، وما رقصنا إلا كالطير المذبوح..

فلمن تُقرع الطبول الآن؟؟...

كنت صغيراً حين انحفرت في الذاكرة صورة أمي وولولاتها وصراخها، وتقطيع ثيابها على أخيها (خالي) وقد جاء خبرٌ عام باستشهاده، أو جرحه في فلسطين، وكان متطوعاً في "جيش الإنقاذ" مع فوزي القاوقجي (عاد خالي سالماً، وحدّثنا طويلاً، ومرِاراً، ومَرَاراً عن تلك التجربة ـ الهزيمة المأساة، وعن القصص التي سمعها، لكن صوت أمي بقي عميقاً في الذاكرة والوجدان).

كان عليّ أن أُقسم أغلظ الأيمانات بأن ذلك حصل وعمري ما تجاوز العامين، لأن العلم لا يعترف بقدرة الذاكرة على التسجيل في مثل ذلك العمر، إلا إذا كنت من النوع الاستثناء، أو العبقري. ولأني لا هذا ولا ذاك اعتقدت أن قوة فلسطين فينا، وحليبها الذي رضعناه صغاراً، وتكرار حالات الندب والعويل، وأصوات طبول الانتصار والتحرير الصاخبة.. خلط الأمور والصور علينا، تماماً مثلما اختلطت فينا وعلينا الأحلام بالوقائع، فسبحنا طويلاً في مياه المسابح التي تخيّلناها، وحملنا التحرير أماني عَبقة، وقرعنا طبوله، ورقصنا في حلقاته حتى الانتشاء والدوخان، وكأننا في حلقات ذكر أو زار تُنسينا الواقع، فنرتفع إلى اللامرئي، وعندها نرسم اللوحات والأشكال التي نتمنّى.. وقد نعتقدها واقعاً، وشخوصاً، وأحداثاً، وربما توقّعات ونبوءات، ولا نشبع، لأن قرع الطبول، أو دقّها إدمان اختلط علينا فيه الحابل بالنابل، المتوقّع والمصنّع، الراكب والمركوب..

نعم، ستون عاماً ويزيد ونحن ندقّ الطبول، أو نسمعها مُجبرين، وكأننا اعتدنا الدقّ، وكأننا أدمنّا فعل التدويخ وزوغان البصر والبصيرة، أو فعل الرحيل إلى اللامرئي لرسم العالم الذي كنا به نحلم، ففرّ من بين قبضاتنا وأصابعنا، وما عاد غير الندم، وتدبيج حبر الأماني، وكتابة المذكرات المليئة بلو، ولو.. ورغم ذلك ما زلنا ننتشي لصوت الطبل ولا نميّز نغماته، وأهداف ضاربيه، وتوقيته، وهل هو طبل الأعراس والدبكة، أم طبل الأتراح، أم فرحاً بقدوم مسؤول، أم تمريراً لوضع، وتبليعاً لمرحلة، وصرفاً لأنظار، أو تلميعاً وتمييعاً.. فلا نحسّ إلا وقد انغمسنا في حلقة الذكر والزار، وهات يا تحليلات، وهات يا توقعات، وهات يا سيناريووات، وهات يا اندفاع وبيانات (حب الوطن والوقوف في خندقه، والاستعداد لحمل بندقية ما دفاعاً عنه، وعن النظام الذي يقرع، أو يسخّن..)، بينما ألِفَ عدونا التخطيط لفعل مارسه طويلاً بتوقيت وترتيب، ووفق معطيات ومعلومات يتبجّح بها فيعلنها بطريقة استعلائية الذي يعرف أننا لا نقرأ (كما قال ديّان)، ولا ندري مدى تأثّره بنا (وقد عاشرنا أزيّد من ستين عاماً)، وبالعولمة المعولمة، وجنون اليمين المحافظ في أمريكا، فراح يقلّدنا ببعض الشطحات(من شطح وركح)، لتمتلئ الأجواء بكلام الحرب القادمة، ثم تفاصيل (الخبراء والمحللين) وهم يستعرضون لنا أنواع السلاح لدى كل فريق، واتجاه الضربة، ونتائجها، وكمّ الصواريخ التي ستتهاطل على الكيان ومدنه ومناطقه الحيوية(بما يتجاوز السنّ بالسن، والعين بالعين، إلى ما يمكن تخيّله بدء النهاية)، ليأتي من يبشّرنا بقرب زوال "إسرائيل"، بل هناك من شمّ الرائحة ورأى تحقق ذلك في الأحلام(أحلام لا تسقط على الأرض)، وهات يا ردح، وهات يا طبول..

****

قبل عامين راهنت رفيقاً صديقاً على حفلة عشاء عرمرية حول: احتمالات ضرب إيران، كان مقتنعاً مائة بالمائة أن الضربة قادمة لا محال، لأن "إسرائيل" والغرب كله لا يسمحان لها بامتلاك السلاح النووي، وقد اقترَبَتْ منه، لذلك توقّعَ دنوّ الضربة الماحقة، وذهب أبعد وهو يحدد موعداً، أو موعدين تقريبيين(صيف أو أواخر عام 2009)، وقد بنى تقديراته على منطق الأمور الذي يشير إلى ذلك بشكل سلس، وعادة الكيان في تدمير محاولات العرب النووية، واغتيال كومة من العلماء العرب المختصين بالذرّة، ناهيك عن الشطحات البوشية التي تزيدها احتمالية طبول التصريحات التي تدقّ بقوة، ومن أكثر من جهة، فتدوّخ فعلا حتى من لا يدوخ.. وقد ربحت الرهان، لكن صديقي لم يقتنع بالنتيجة، وتقديره أن المسألة وقتية، أي أن الضربة قادمة، قادمة.. و(سنرى).. سنرى لأن "إسرائيل" يستحيل أن تسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي... في حين أن أسئلة مشروعة تطرح نفسها بقوة عن مسببات الانتظار كل هذه السنوات، وعن اتجاه الاستخدام (إن امتلكته إيران)، وموقع البدائل في الأجندة الصهيونية والأمريكية، والغربية على العموم، ونقصد بها مجموعة الأولويات، وموقع المرجّح منها، ولوحة ما يجري في المنطقة من تأجيج طائفي وحروب أهلية معلنة، وكامنة، وساح العراق كاشف وامتحان..

منذ وقت قصير ارتفعت وتيرة الدّقّ. تناوبت وتنوّعت، فرددها الصدى، والعديد من الباحثين والمحللين والنشطاء والمفكرين، وأنهكوها بحثاً وتمحيصاً واستقراءً وكتابة من العيار الثقيل، خاصة وأن السيد حسن نصر الله لم يفوّتها، بل توقف عندها تحليلاً ووعيداً، ثم جاء أحمدي نجاد إلى سورية فأشبعها بعداً استراتيجياً، واتفاقات ثنائية، وثلاثية، ومع الفصائل الفلسطينية.. مما يعني أن المسألة تبدو وكأنها جدّية، وأننا مقبلون على حرب قادمة خلال أيام، أو أشهر (كثيرون يحددون تواريخ تقريبية: الربيع، أو الصيف القادمين، مثلما حددها نجاد)، وكثيرون يشرحون، ويوصّفون، ويكتبون عن الحرب القادمة، وعن الوقع الخاص لطبول هذه الأيام.. التي ستكون مختلفة عن طبول الأيام الخوالي، فيبشّروننا باقتراب محق وزوال الكيان الغاصب، وتنتشي الأحلام....

ما من أحد يشكّ، ورغم انتصارات الكيان الصهيوني على العرب (بالجملة والمفرّق)، وتثبيت أركان ذلك الكيان، وأخطبوطية علاقاته بالغرب الإمبريالي، ومدى تغلغله ونفوذه في دوائر صنع القرار، والتأثير على الرأي العام، وفي الاقتصاد وغيره، ومستوى تحاتلفاته العضوية بعموم الدول الغربية (على رأسها أمريكا)، وتقدمه العلمي والتسليحي والعسكري، وفي ميادين كثيرة، وإلحاقه الهزائم بالنظام العربي، ثم اختراقه له بعمق عبر الاتفاقات وعمليات التطبيع والتعاون متعدد الوجوه (المكشوف والمخفي)، وتراجع موقع وحال وفعالية القضية الفلسطينية،وفكرة قيام الدولة الموحّدة المستقلة..إلخ... إلا أنه يعاني، بالأصل، أزمة بنيوية عميقة. أزمة كيان، وأزمة مستقبل، وأزمة وجود هجين وسط بحر عربي يستحيل ابتلاعه..

ولئن شكّلت الحروب العدوانية المبرمجة واحدة من صفات ذلك الكيان: التوسعية، الاستنزافية، الإجهاضية، ومن قنوات التصريف والامتصاص والتسكين والتخدير.. فإنها وصلت السقف في عدوان تموز/2006/ على لبنان، والعدوان على غزة (محرقة أواخر 2009) دون أن تحقق كامل الأهداف المُعلنة (جوهرها)، وارتدّت عبر صعود بارز لليمين الأكثر تطرفاً: اليمين الفاشي، الدموي، وبما يطرح أسئلة قوية لدى عديد الإسرائيليين عن مستقبل ومصير هذا الكيان النشاذ الذي فشل في تطبيع وجوده مع العرب: الشعب والنخب الثقافية، كما فشل، رغم كل ما حققه في حروبه، من اشتلاع الشعب العربي الفلسطيني، ومن تكريس عنصريته (المطالبة بالاعتراف بالدولة اليهودية ابتكار مأزوم)..

اليمين الأعنف الذي يجد صورته الصارخة في وزير الخارجية (الدوبرمان ليبرمان، الذي لو كان عربياً لرجم، وصلب بتهمة الإرهاب الدولي، والتحريض على الإبادة الجماعية) يعشق قرع الطبول الكبيرة، لإحداث الأصوات الصارخة، الصاخبة التي تشكل جزءاً من عقيدته وفلسفته وتكتيكاته، وخلط الأحلام الإجرامية بالتسويق الداخلي فتخرج بين الفينة والأخرى تلك التصريحات النارية (اللامسؤولة).. فتلتهب الأيدي بالدقّ المألوف على طبول التسخين، وتبدأ حلقات الذكر احتفالاتها.. أو ترديد الصدى الباهت.. وهو، في عمق تشكّله الإجرامي، ومعه نتانياهو.. يجدان في الحروب فرصة لتحقيق سقوف الأحلام الأكثر تشدداً، لكن تلك السقوف يمكن أن تسقط عليهما، وعلى البنيان برمته، خصوصاً وأن الأوضاع الداخلية الإسرائلية لا تحتمل المزيد من الحروب، ناهيك عن احتمالات الفشل، والخسائر، كما أن الوضع الدولي بقيادة إدارة أوباما لا تميل إلى (الأعمال الجراحية) العنيفة في حل الإشكالات الدولية، هي التي لا تعرف سبل الخروج من مستنقع العراق وأفغانستان، وأزمتها الاقتصادية الطاحنة، وسمعتها السيّئة في العالم..

وقبل بعض التدقيق بالوقائع والحقائق، فإن من قرأ بتمعّن خطاب السيد حسن نصر الله، لا بدّ أن يتوقف عند ما يُعتبر جوهره، حيث أكّد أنه، وحسب دراسة أوضاع الكيان من كل الجوانب، وكافة المعطيات المحيطة به، وبالقوى والدول التي تستهدفها تصريحات ليبرمان، والوضع الدولي.. فإنه (أي السيد حسن) لا يتوقع حرباً قادمة في زمن قصير، ولا يعتقد أنّ قادة الكيان قادرون على شنّ عدوان يحقق الأهداف التي يسعون إليها (نصراً حاسما، وسريعاً، ومضموناً).. ومع ذلك انهالت التوعّدات التي اعتبرها نوعاً من الردع، أو التحذير.. (كأننا ننتظر الدوبرمان لنفيض..).

السيد أحمدي نجاد يعلن في دمشق أن العدوان قادم (لم نعرف من المُستهدف منه)، ويحدد زمناً تقريبياً (الربيع أو الصيف القادمين)، ولذلك اعتبر العديد من الكتاب والمحللين أن تلك الاجتماعات التي عقدها هي "مجلس حرب " حقيقي، فانهالت التحليلات والتوقعات.. وبدأت طبول المنطقة تدقّ أعنف ضرباتها...وكأننا فعلاً في أجواء حربية يبشّرنا فيها مرشد الثورة الإسلامية (علي خامئني) أنّ زوال "إسرائيل" قريب، وأنه يتوقع انهيارها الحتمي...

****

إذا كانت تقديرات (نصر الله) تستبعد الحرب في زمن قريب، وإذا كانت الأوضاع الداخلية الإسرائيلية لا تتحمل الإقدام على مغامرة خطيرة، غير محسوبة النتائج تماماً، وإذا كانت إدارة أوباما ترجّح الحلول السياسية، ولغة الحوار والتفاهمات.. فلمَ، ولمن تدقّ طبول الحرب إذاً؟؟..

الحرب هي ممارسة السياسة بطريقة عنيفة، أما قرع الطبول فإنه يحقق، بالتأكيد، جملة أهداف لقارعيها.

ـ الكيان بقادته (الجوارح والنهاشين ومصاصي الدماء) يريدون الوصول إلى سقوف جديدة في استراتيجية الكيان، وأقله: امتصاص الوضع الداخلي لصالح المزيد من التأييد، وتصعيد وتيرة العنصرية، استعداداً لمزيد من عمليات التهويد، ومحاولة ترحيل عرب فلسطين، أو وضعهم في زجاجات خانقة، وتمييع ما يسمى بالمفاوضات مع الفلسطينيين، أو فكرة الانسحاب من الجولان. وهو، مما لا شكّ فيه، لا يقبل أن تصل إيران إلى مرحلة إنتاج السلاح النووي، وسيحاول بوسائل كثيرة إجهاض الوصول (حتى لو اضطرّ في أفق ما، وبعد فشل الأوراق البديلة، إلى استخدام القوة عن طريق ضربات جوية قوية).

لكن المزيد من التصعيد اليميني. المزيد من ضبط إيقاع التناقضات الداخلية الإسرائيلية، المزيد من إعطاء المبررات لسياسات اليمين الإلحاقية، التهويدية، خاصة إزاء القضية الفلسطينية، والمناطق العربية المحتلة(الجولان وبعض الأرض اللبنانية).. يجد مسوّغاته، ومرتعه في انتشار الخطاب المتشدد والناري في المنطقة، وعبر رافعي شعارات المحق، والحرب والإزالة (والتي لم تحرر أرضاً، ولم تدحر كياناً، أو توقف عدواناً، أو تجد ترجمات لها).. وليس من خلال أوضاع عاقلة، متعقلة، تحسب جيّداً موازين القوى، وتنهج الخطوات العملية في الصراع التاريخي (متعدد الأشكال) التناحري، المصيري مع هذا الكيان العدواني، الاستيطاني، انطلاقاً من تعزيز الوحدة الوطنية داخل كل بلد، ووصولاً إلى أوضاع ديمقراطية تصون كرامة وحريات وحقوق المواطن، وتفتح المجال للتعددية، وخيارات الشعب في انتخابات حرّة تشارك فيها جميع القوى السياسية على قدم المساواة، ووفق قوانين تطبّق على الجميع، وبالتالي: قيادة الصراع بكل تلاوينه ومستلزماته.

والذي لا شكّ فيه.. أن ما يجري في المنطقة العربية منذ سنوات، خاصة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وبروز الدور الإيراني بمشروع طموح (قومي ـ ديني مذهبي)، وامتطائه بقوة شعارات المشروع القومي العربي النهضوي، خاصة في " الصراع العربي ـ الصهيوني"، وإزاء القضية الفلسطينية، ومجابهة الوجود الأمريكي في المنطقة.. بواقع غياب كلي، مريع، وملفت، ومزرٍ للنظام العربي (معظمه يقعد في خندق الأعداء، ويتآمر على فلسطين وحقوق العرب، وعلى المقاومة العراقية).. لا شكّ أنه يصبّ في صلب المشروع الصهيوني: التفتيتي، الشرْذَمي، ما لم يكن تجسيداً له بأشكال مختلفة. وهنا، بغض النظر عن النوايا، ورغماً عن كل تلك الشعارات والخطابات النارية التي تستهوي أفئدة وأحلام المواطن العربي، فتزجّه فيها بين اليقظة والغيبوبة.

نعم.. ما حدث في السنوات القليلة الماضية من تأجيج طائفي ـ مذهبي، وصراع يُراد أن يتخذ طابعاً دينياً، والانتقال إلى ترجمات عنيفة له في العراق وساحات عربية عديدة.. خدم ويخدم الاستراتيجات بعيدة المدى للصهيونية ومن والاها، لأنه لا يمكن معادلة جميع التناحرات، والانقسامات بتلك العمودية التي تتمّ، والتي تترك آثارها البعيدة لأجيال وأجيال..

وبالتالي: فإن أسئلة مشروعة يطرحها الواقع عن فحوى ومعنى الشعارات الأخرى، وعن أهداف قرع طبول الحرب في هذه الفترة.. وهل هي فعلاً حقيقية، وباتجاه مواجهة، أو درء مواجهة مع كيان العدوان، ومع الوجود الأمريكي المحتل لأرضنا، وسمائنا، وبحارنا، وثرواتنا، ونظمنا..؟؟..أم أن الدقّ يرمي إلى أشياء أخرى، لنصبح، نحن العرب، كمن أخذته الطوفة.. لا يدري ماذا يصير، ولا حول ولا قوة له سوى البحث عن قشّة يتعلّق بها؟؟ وسوى أن يكون وقود الحرائق والدمار دون أفق، أو خطة للتحرير، ناهيك عن إزالة الكيان ومحقه؟؟..

السؤال الكبير الذي يجب طرحه بصراحة، وشفافية: هل إيران القيادة الحالية صادقة، وجادّة فيما تطرح من شعارات العداء للكيان الصهيوني، وأنها ستمحقه، وتسحقه، وتزيله من فلسطين فتريحنا منه، ومن شروره للأبد؟؟ ومثل ذلك فيما يتعلق بالوجود الأمريكي الكثيف في بلادنا (العراق مثال، وساحة وكاشف وامتحان)؟؟..

أم أن المشروع الإيراني وهو يواجه إشكالات داخلية قوية(تعبيراً عن أزمة الانقسام التي برزت بعد الانتخابات الرئاسية)، وهو يندفع (لذلك، ولأسباب أخرى) فيما يظهر تحدّياً لإرادة الدول المتحكمة بالعالم.. يحتاج بشكل طاغٍ إلى ذقّ الطبول وتسخين الأجواء، بل وحتى توريط الآخرين ليكونوا الأداة والساحة.. كي يستمر المشروع الإيراني، وكي يتواصل نهج التشدد اللفظي، فيجتاح المنطقة طوفان الاختلاط والتناحر، وتصبح الأقطار عرضة للمزيد من التفسيخ والحروب؟؟..

لا شكّ أننا شعوب عاطفية، وأننا ننسى في لحظات الاندفاع عقولنا وقناعاتنا، وكل مضامين ووعي التجارب والدروس فننساق في طوفة الدقّ وننتشي، ناهيك على أن القضية الاجتماعية ضامرة ومسحوقة أمام الوطني القومي (حقيقة كان أم افتعالاً)، وأن جلّ شعوبنا لا تعي حقوقها الديمقراطية في حرية التعبير والرأي والحياة الكريمة، والمساواة أمام القانون.. لذلك يغريها دقّ التسخين، وينسيها كل شيء آخر..

وإذا كان الأكيد أن الوطن فوق الجميع (قبل أي نظام ومعارضة)، وأنه إذا ما تعرّض لخطر أو عدوان خارجي.. فالبديهي أن يقف أبناؤه في خندقه (بغض النظر عن طبيعة الحكم والمرحلة).. لكن الأكيد أيضاً وجوب وعيّ الذي يجري وخلفياته، وأسبابه، والمستفيد منه كي لا نكون (كالأطرش في الزفّة)، أو كالأطفال الذين يضحكون لإسكاتهم بقطعة حلوى، أو لعبة.. وأقله أن نفهم حقيقة هذا الدقّ ومؤداه، وحقيقة الأهداف التي يرومها الأطراف الأساسيون منه وفيه..

23‏/12‏/2009

النظام السوري يحول السوريين إلى متسولين ومتهمين


تبدو سورية للخارج الإقتصادي والإعلامي وكأنّ لا أحداث مهمة في سورية على مدى عامين سوى المازوت المدعوم ، وبدا الأمر للمرقبين الخارجيين غير المطلعين بواقع الأمور وكأن سورية تعاني من أزمة في المشتقات النفطية وبأن العرض أقل بكثير من الطلب بدليل مشاهدة الحشود السورية أمام مراكز توزيع المازوت لعدة أشهر منذ عامين تقريبا ، وعودة هذه الحشود هذه الأيام أمام مراكز توزيع شيكات المازوت المدعوم !
والذين يعرفون في الخارج أن سورية مصدّرة للنفط لكنها تستورد المازوت بكميات تزيد عن حاجة السوق سيكتشفون أن الأزمة سببها أن غالبية السوريين غير قادرين على تأمين إحتياجاتهم من المازوت بعد رفع سعره من 8 ل س لليتر الواحد إلى 25 ل س دفعة واحدة ثم تخفيضه قليلا إلى 20 ل س !
أما بالنسبة إلينا فنرى أن حكومة المهندس محمد ناجي عطري حوّلت مئات الألوف من السوريين إلى متسولين على ابواب مؤسساتها وإداراتها ، والأخطر من ذلك إرغام كل من يريد الحصول على الدعم النقدي الذي لايتجاوز العشرة آلاف ليرة على تعهد حوله إلى متهم حتى يثبت العكس !
فقد نص التعهد على عبارة ( أتعهد بصحة البيانات الواردة أدناه وأتحمل كامل المسؤولية عنها ) .‏‏‏‏
لاندري كيف ستكتشف الحكومة جميع من تقدم ببيانات مزورة ، أو كيف ستنفذ الملاحظة التي وردت في نهاية التعهد وهي ( في حال إعطاء بيانات غير صحيحة يسترد مبلغ الدعم من المخالف ويغرم المخالف بضعفي المبلغ الذي قبضه ) .‏‏‏‏
ولكن الشيء المؤكد أن الحكومة قد خططت منذ اكثر من عامين كي تبقى قضية ( المازوت المدعوم ) الشغل الشاغل للسوريين على مدار أيامهم وأسابيعم وأشهرهم وسنواتهم لتبقى مهدورة على أبواب الحكومة !
وما يثبت ذلك أن الكشف عن المتهمين بالتزوير يحتاج إلى جيش من الموظفين للتدقيق في البيانات !
لاشك ان من السهل محاسبة من زوّر البيانات إذا كان من العاملين في الدولة إذ يقتطع من راتبه قيمة الشيك مع ضعفيه على مدى عدة أشهر .. ولكن كيف ستسترد الحكومة المبلغ مع الغرامة من مواطنين غير عاملين في الدولة أو عاطلين عن العمل ؟
لامجال هنا امام الحكومة إلا بإصدار قرارات توقيف أو سجن المتهمين أو إحالتهم على القضاء أو الحجز على أموالهم المنقولة وغير المنقولة هم وأفراد اسرتهم ومنعهم من السفر .. وغيرها من الإجراءات التي تتيح استمرار شغل السوريين بقضية المازوت المدعوم وتداعياتها المتنوعة الأشكال والأحجام !
نعم لقد نجحت حكومة عطري بإشغال ملايين السوريين بقضية المازوت المدعوم ، ونجحت بإشغال آلاف الموظفين لتوزيع القسائم والشيكات على مدى عامين ، والنجاح الأكبر كان وسيكون بفتح أبواب الفساد على مصراعيه !
وإذا كانت القسائم اتاحت مجالا واسعا للتزوير والفساد والمتاجرة فإن أسلوب الشيكات سيفتح مجالات غير مسبوقة في الفساد الإداري !
ولاندري ما الإبتكار الذي ستتحفنا به حكومة المهندس عطري العام القادم كي تبقى الأزمة مستمرة ، ولا نستغرب قيام حكومة عطري بابتداع أسلوب جديد يزيد من تسوّل وإذلال السوريين أمام العالم الخارجي وتحويلهم إلى متهمين أكثر فأكثر !
وقد حرصت حكومة عطري على عدم تنفيذ الصيغة الجديدة قبل حلول فصل الشتاء كي تتضمن ان البرد القارس سيدفع إلى خروج عشرات الألوف من السوريين يوميا وعلى مدى أسابيع إن لم يكن أشهر ليشكلوا لوحة سريالية أمام الأبواب الحكومية تعيد أمجاد الحكومة الماضية في الثمانينات عندما كان المواطن السوري يهدر عدة أيام للحصول على علبة محارم او كيلو بندورة أو ليمون !
ولو كانت الحكومة مهتمة بتوزيع الدعم بيسر وسهولة بعيدا عن التظاهرات والحشود أمام مراكز توزيع الشيكات لاتخذت القرار في مطلع أيلول على الأكثر لافي نهاية كانون الأول !
وقد سبق لرئيس الحكومة أن أكد أمام مجلس الشعب في نهاية شهر آذار 2009 ( أن المعونة المالية التي ستقرر لاحقا لكل عائلة ستدفع على دفعتين سنويا الأولى في الأول من أيلول القادم ) !
لكن يبدو أن الحكومة رأت فيما بعد أن هذا التاريخ لن يتيح خلق أزمة ( مازوت مدعوم ) في سورية فتحللت من الموعد المقرر قبل عدة أشهر وتركت الأمر معلقا في الهواء !
وتحقق للحكومة ما ارادت فعلا إذ تحول ( المازوت المدعوم ) مع الجلسة الأولى لمجلس الشعب في مطلع تشرين الأول إلى أولوية كادت أن تكون وحيدة على أجندة مجلس الشعب واتحاد العمال واتحاد الفلاحين والإعلام الرسمي والخاص وصولا إلى الإعلام العربي .. وربما دون أن ندري الأجنبي إلى حد ما أيضا !
وحسمت حكومة عطري أمرها دون أن تسمع لأحد ، ولم تنفذ قرارها المازوتي إلا في عز الشتاء !
والأهم بالنسبة إليها عدم إذعانها لمطالب العمال ومجلس الشعب والفلاحين باعتماد صيغة أكثر عدالة وراحة للمواطن والموظف لأنها لو اذعنت للمقترحات البديلة لما نشبت أزمة مازوت مدعوم ..
بل كيف ستذعن وهي تسعى إلى استمرار الأزمة على مدار العام ؟!
وربما فرحت حكومة عطري كثيرا عندما اكتشفت نتائج غير محسوبة لقراراتها ( المازوتية ) ..
فقد رفض عشرات الآلاف من السوريين ، وبخاصة القاطنين منهم في المناطق الجبلية والداخلية الشديدة البرودة ، التسول امام الأبواب الحكومية أو تحويلهم إلى متهمين حتى تثبت براءتهم وفضلوا العودة إلى عصور الفحم الحجري والحطب الصناعي والطبيعي والجفت ..الخ .
اما من يسكن مناطق المخالفات فهو غير معني بقرارات الحكومة المازوتية لأنه يستجر الكهرباء مجانا وبالتالي ليس بحاجة إلى المازوت المدعوم او غير المدعوم فالكهرباء المجانية توفر له الدفء والمياه الساخنة على مدار اليوم ، وهذا لايعني انه بغنى عن الشيك ( المدعوم ) لكنه غير مستعجل بالحصول عليه الآن وقد ينتظر حتى انتهاء الشتاء ليحصل عليه بالراحة !
وليس مستغربا أن تشجع حكومة عطري خلال الأعوام القادمة العودة إلى أساليب التدفئة التي انقرضت سواء في سورية أو العالم ونعني بها الفحم والحطب والجفت وغيرها لأن هذه الأساليب المنقرضة تؤدي إلى تخفيض ( فاتورة المازوت ) مما ينعكس توفيرا بمليارات الليرات على خزينة الدولة !
ولا يهم الحكومة هنا إذا ادى اسلوب التدفئة بالحطب المجاني من الطبيعة إلى انحسار الغابات الحرجية وانقراضها من الوجود تدريجيا لأنها بالأساس غير مهتمة بالغابات ولا بالزراعة فجل اهتمامها هو المستثمرين وكبار رجال الأعمال ..
وليتسول ماتبقى من السوريين على الأبواب الحكومية أو يسرقوا الكهرباء أو يعودوا في فصل الشتاء إلى العصور البدائية !

18‏/12‏/2009

"إطارات" دمشق القاتلة!



انفجار "الإطارات" في دمشق رسالة واضحة المعاني وتأكيد بأن الإرهاب سيبقى سيفاً مصلتاً

ليس في الأمر جديد أبدا ! فدمشق و نظامها الاستخباري الحديدي قد عودا الرأي العام على إصدار البيانات التطمينية بعد كل عملية إرهابية أو عسكرية أو أي انفجار تكون دمشق ضمن نطاقه, و العجيب في الانفجار الأخير في حي السيدة زينب في ريف دمشق و الذي يعتبر منجم الذهب بالنسبة إلى السياحة الدينية في سورية و مركزا مهما من مراكز الاستثمار الإيرانية و الخليجية في الشام , ليس عدد الضحايا الذي قال النظام السوري إنهم مجرد ثلاثة أشخاص فقط لا غير رغم أن بياناً ايرانيا مضاداً ذكر أن الضحايا بالعشرات و إن الانفجار ناجم عن قنبلة و ليس انفجار إطار عجلة الباص, بل أن العجيب حقا أن يسفر انفجار اطار باص عن كل هذا العدد من الضحايا, كما إن اختلاف الروايات بين الحلفاء (دمشق وطهران) بشأن ما حدث يظل يثير أكثر من علامة استفهام, على كل حال فإن الانفجارات المفاجئة و الغامضة هي وحدها التي تبدد حالة الصمت الرسمي المعلنة في دمشق و التي تشهد أروقتها السياسية هجمة حكومية استخبارية منظمة و مبرمجة ضد القوى السورية الديمقراطية و الحرة سواء من أهل "ربيع دمشق" الذي تحول إلى خريف معتم و قاتم بعد سد كل فجوات و نسائم الحرية النسبية أو الآمال بها , فملف شيخ الأحرار الأستاذ هيثم المالح ما زال ينتصب و يشهر بقوة بوجه النظام الإستخبارى الذي لا يستطيع أبدا مغادرة خانة الأحكام العرفية و حالة الطوارىء المريضة المشهرة فوق رؤوس الشعب السوري منذ أكثر من ستة و أربعين عاما, أي حتى قبل ولادة سيادة الرئيس بشار الأسد نفسه, وهي حالة عجيبة و غريبة لا يوجد ما يماثلها في التجارب السياسية المعاصرة في العالم? الانفجار الأخير و بصرف النظر عن حقيقته يعيد إلى الأذهان على الفور أحداث غريبة و غامضة من الاغتيالات و التصفيات و الانفجارات التي عرفت أسرار بعضها بينما توارى البعض الآخر خلف الستار الحديدي لنظام المخابرات السورية فاغتيال القيادي في "حزب الله" عماد مغنية يظل لغزا لم يفصح النظام السوري أبدا عن حقائقه و ظروفه بل تجاوزه و حاول إسدال ستائر النسيان عليه رغم أنه اختراق استخباري هجومي و ضخم لقلب العمل السري ل¯ "حزب الله" و لمؤسسة الحرس الثوري الإيرانية المسؤولة عن الحشد و التعبئة و التمويل, خصوصا و أنه بعد ذلك الاغتيال الشهير شنت المخابرات الإسرائيلية بأوسع عملية مطاردة كونية لتجفيف منابع "حزب الله" المالية على امتداد الكرة الأرضية ! كما تجاهل النظام السوري نشر أية معلومات عن اغتيال رجل المهمات الخاصة في النظام العميد محمد سليمان قبل اشهر أو انفجار مقر الفرع الأمني في منطقة القزاز في ريف دمشق أيضا, وحوادث أخرى عديدة, ما يلفت النظر في الإنفجار الأخير هو تدخل مستشار اتحاد الصحافيين العرب الرفيق المخضرم صابر فلحوط! ليدافع عن التحالف الإيراني السوري الذي اعتبره لمصلحة القضايا العربية! رغم أن ماحصل لا علاقة له بأصل الموضوع الذي تحدث عنه فلحوط, مما يشير بوضوح إلى أن خلف الأكمة وراءها, والواقع أن طبيعة الإنفجار القوية لا يمكن وفقا للمقاييس المعروفة أن تكون ناتجة عن انفجار إطار, أو أي شيء قريب من هذا الموضوع, و لكن و كما نعلم فإن إرادة أهل المخابرات السورية تجعل الأفيال تطير بأجنحة من الشمع, وبين اجتهاد أهل النظام السوري في نفي صفة العمل الارهابي عما حصل في ريف دمشف إلا أن الرسالة كانت شفافة وواضحة للغاية من خلال تواجد رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني سعيد جليلي في دمشق في وقت متزامن مع تلك الحادثة, وهو ما دعا الرفيق المناضل المخضرم صابر فلحوط إلى التعليق على أهمية العلاقات السورية - الإيرانية, رغم أنه يعلم بأن الإيرانيين يخترقون الأمن القومي العربي و يمارسون أفعالا مضرة بالأمن و السلام الإقليمي , و يصعدون الموقف العسكري الهش في الخليج العربي نحو نهايات تصادمية مفزعة و بإتجاه خيارات حسم دولية الله وحده يعلم ما ستؤول إليه نتائجها, إلا أنه مصر على تجاهل تلك الوقائع و الإبحار في عوالم التخاريف و الهلوسات الثورية المفلسة, إنفجار "الاطارات" في دمشق هو رسالة واضحة المعاني و المباني, كما أنها تأكيد لمن يهمه الأمر بأن الإرهاب يظل سيفا مصلتاً على الجميع , فمن يتلاعب بهذا الملف عليه توقع نتائج إرتداداته العكسية المدمرة على الجميع, و يبدو أنه وفقا للسياسات الكواليسية وحملات المطاردة الإقليمية بين القط و الفار سنشهد انفجار المزيد من "التايرات" على امتداد المنطقة.. وسترك يارب.

14‏/12‏/2009

"سعيد" جاري العزيز، لم يعد سعيداً.


سعيد ... وقراره المفاجئ

لماذا يا "سعيد"... أنت الذي كنت منذ أيام ثلاث فقط في حالة نشوة من فرط سعادتك ..؟ ما الذي حصل في ليلتين كي تبتعد عنك السعادة ..؟
كان الواقع، أنه اكتشف مساء يوم الخميس تحديداً بعد جلسة شاعرية حميمية، بأن راتبه وزوجته يزيد عن 33333.33 ل.س. شهرياً، وبمقدار تافه ... كما أبلغته شريكة عمره.
لا تستغربوا، أعلمتكم سابقاً أن "سعيد" درويش جداً بل حبّوب كثيراً، وهو متفهم تماماً للواقع الأسري ولحقوق المرأة وحسن إدارتها لشؤون المنزل، ولذلك فقد كان يعطي زوجته كل ما يقبضه من راتب وظيفي، و"يحطوا الخبزات على الجبنات" لحياة أسرية سعيدة قنوعة ... من جانبه.
مسكين جاري "سعيد"، اكتشف أنه ليس بالسعيد، وأن أباه – رحمه الله – أخطأ حين أسماه سعيداً، وأن واقع الحال عكس ما هو اسمه تماماً ...
مسكين "سعيد"، اكتشف متأخرا أنه من الطبقة المترفة التي لا تحتاج إلى الدعم الحكومي.
حاولت التسرية عنه بعض الشيء، وإعادة السعادة التي كان مثالاً عنها للشعب السوري السعيد، بقولي له أنه يعمل عملاً إضافياً حراً دون معرفة مصلحة الضرائب، وان الحكومة تمنّن عليه بالتعويض الأسري وتعويض التدفئة ومهمات السفر والطبابة وما إلى ذلك من دعم غير مباشر لقطاع الموظفين الحكوميين .. وأنه ، وأنه ....
قاطعني لاوياً رقبته ببطء واتهمني بأني عديم الإدراك (؟؟!!) ... لأن الدعم الحكومي يتعلق بمجموع الدخل الذي يحصل عليه، وأن زوجته ذكـّرته بأنهم – الأسرة – لم يمارسوا ولا حتى لمرة واحدة حقهم في السياحة الداخلية التي يشاهدونها في التلفاز – كما سبق وأبلغتكم بذلك في "سعيد من شعب سعيد" - ، وأنه تحمّل آلام البحصة منذ أربع سنوات حتى خروجها لعدم مقدرتهم الاستدانة أو تحمل تكاليف العمل الجراحي ....
فاجأني "سعيد"، ومن ناحيتين ... أولهما بأنني عديم الإدراك ؟؟؟ اتهمني وكأنها الشتيمة، لأول مرة خلال معرفتي الطويلة به، وبطريقة تعبيرية غريبة ليست بالتهجم وليست بالعتاب ... وثانيهما أنه يتكلم قهراً – وإن نقلاً - .
مسكين "سعيد"، اكتشف أنه مسكين وليس سعيد... اكتشف بعد تلك الجلسة الشاعرية إياها، أنهم – كأسرة – قد لا يستطيعون إكمال تعليم أبنائهم كما يرغبون إن لم يستطع – الأبناء – الحصول على العلامات شبه التامة في الثانوية النهائية، وأنهم لا يستطيعون حتى في التعليم الموازي أو المفتوح، وأنهم بذلك سيحرمون الوطن من كفاءات قد تضطر إلى إظهار مواهبها في "المغتربات" إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً بفضل أقربائهم في تلك المغتربات... وأبلغني المسكين أنهم قد لا يستطيعون دعوة الأحباب والأقرباء والأصحاب إلى "حفل بهيج" بمناسبة زفاف أحد أبنائهم كما يشاهدون في التلفاز .. وأنهم لا يستطيعون .. ولا يستطيعون .. مستطرداً بنقل أحاديث سمعها من زوجه في تلك الجلسة الحميمية إياها.
صدمني "سعيد" وحيّرني .. كيف سأتصرف، كيف سأرد، ماذا سأقول ... أصدقكم القول ؟ كأنها ساعة في لحظات.
حاولت مجدداً : احسبها "سعيد"، إن مبلغ الدعم بكامله لا يتجاوز ثمن برميل واحد من المازوت على ظهر السيارة، ما بك؟؟؟ نظر إلي جانبياً واستمر ملياً دون أي تعبير كلامي صدر منه ...
تفاجأت ثانية... كررت قولي فأجاب : أنا المواطن العربي السوري منذ ولادتي، الذي لا أملك بيتاً ولا سيارة، وكل ما أدفعه فواتير مياه وكهرباء وهاتف لا تتجاوز ألفي ليرة شهرياً، وليس لدي سجل من تلك السجلات الخاصة بمصاصي قوت الشعب، ومما تقبضته زوجتي من راتبها وراتبي بالكاد أن يكفي مصاريفنا، اضطررنا للاستدانة في العام المنصرم لأجل "المازوت"، والأسعار ترتفع باستمرار، والمصاريف تزدادا بازدياد أعمار الأولاد .. وهناك من يحصل على نقود أكثر منا ويسكن بفيلات ليست باسمه في الريف والمدينة وله ملكيات يعمل بها دون سجل زراعي وسيحصل على الدعم وأنا لا ؟؟.... استمر بالكلام وأنا كالمذهول أمامه.
أهذا هو سعيد ...؟
حاولت مرة أخرى، بإمكانك "سعيد" الطلب من نقابتكم رفع مذكرة إلى اتحاد العمال في المدينة وهو سيرفع مثلها إلى الاتحاد العام في دمشق !!! وكانت المفاجأة ...
نهض "سعيد" دون أي كلمة وخرج من مكتبي مسرعاً، تبعته وأعدته داخلاً، أجلسته ومازحته قليلاً ثم سألته إن كان يرى السبب في سياسة حكومتنا الاقتصادية.؟ أجابني بسرعة فائقة أن لا، فالحكومة تعلم تماماً ماذا تفعل لكن المشكلة فيمن يكتب القرارات التي توقع عليها الحكومة بسرعة .
حسناً، عاد "سعيد" إلى طبيعته والحمد لله ... وافقته بالطبع على مقولته كاتماً حالة الغيظ التي اشتعلت بداخلي، مبتعداً جهدي عن إثارته... بعد قليل سألته عن صحته الجسدية وهل إذا ما كان مثل أيام شبابه (؟؟) .. ضحك "سعيد" عالياً ثم سكت فجأة مع حالة من السكون الغريب على وجهه.
ارتعبت، ما قصتك "سعيد" ؟؟ تبين أنه لم يعد بإمكانه الاستمرار بالعادة الأسرية الحميمية بعد غلاء المازوت وإيقاف الدعم الحكومي عنه.. كان رأيي أنها وببساطة، سياسة حكومية ممتازة للحد من تزايد عدد السكان، ارتفع صوته قائلاً لماذا يشجعون استعمال الأدوات الواقية إذاً...؟
اسقط بيدي مجدداً، إنما انتابتني حالة غريبة لا شعورية من السرور حاولت كتمانها وعدم إظهارها.... استطعت تغيير الموضوع واستمرت الجلسة قليلاً، ثم ودعني "سعيد"، وتلك الحالة اللاشعورية لا تفارقني.
لكنه اتصل بي فور وصوله منزله ليعلمني أنه لم ينقطع عن التفكير خلال سيره وتوصل إلى قرار جذري...
إنه سيغيّر اسمه ....
صمتُّ برهة، ثم تمنيت له نوماً هنيئاً وأنا أكتم رغبتي .... بالصياح سروراً.
ربي وإلهي، استجب لدعواتي أنا العبد الصالح، دعهم يأتون، جميع اللجان الدولية ذات العلاقة بتصنيف السعادة العالمي... ليروا سعيداً في حالته الجديدة .
ادعوا معي رحمكم الله.

09‏/12‏/2009

جاري سعيد، والشعب السوري السعيد .. والدعم الحكومي


أتذكرون جاري "سعيد" ..؟ الذي اعتمدته اللجنة الفاحصة للشعوب واعتبرته مقياساً للشعب السوري السعيد، والذي كان عنواناً رئيساً والسبب لمقالي "سعيد من شعب سعيد" ....؟
"سعيد" جاري، يكاد يطير من السعادة لأنه لا يملك سيارة، وليس لديه هاتف خليوي، ولا يستخدم هاتفه الأرضي إلا للضرورة القصوى فقط، وهو موظف درويش وزوجته موظفة لدى حكومتنا الموقرة، وليس لديه وأسرته سوى البيت الذي يقطنون بالأجرة، وهو لم يفكر أو يطمح في يوم من الأيام بالحصول على سجل تجاري أو سياحي، وبالطبع فهو لا يملك أرضاً ليكون لديه سجل زراعي، وليس لديه منشأة صناعية ليحصل على سجل صناعي.
وهو مواطن عربي سوري منذ نعومه أظفاره حيث أنه وُلد في مدينة عربية سورية من أبوين عربيين سوريين ويتمتع بالجنسية العربية السورية – لاحظوا معي كلمة يتمتع رجاءً – فهو يصبح بذلك سعيداً ومتمتعاً في آن واحد.
سمع جاري "سعيد" بقانون توزيع الدعم إلى مستحقيه خلال دوامه الوظيفي، وأتاني مكتبي منذ قليل (مساء اليوم 19/11/2009) متمتعاً بالسعادة لأنه يستحق الدعم الحكومي، قاطعني عن قراءتي لما كتبه السادة "علي عبود" و "محمد عيسى العلي" ومضى بحديثه منشرح القلب ضاحكاً حتى كادت العدوى تغلبني، فاجأته بسؤال عن مدى معرفته بمقدار الدعم فأجاب أنه ليس بالمهم بل المهم أن الحكومة تهتم به وبأمثاله من المواطنين الدراويش، سألته مجدداً هل يكفيه مقدار الدعم فأجاب أن السيد رئيس الجمهورية سيصدر منحة على عيد الأضحى المبارك وأنه سينال نصف راتبه على الأقل وسيضعه مع الدعم بحيث يكفيه طوال فصل الشتاء.
قرأت له البعض مما كتب عن موضوع "الدعم" فاغتمّ بعض الشيء ثم قاطعني بأن حكومتنا ليست بجاهلة وأنها تعلم أكثر مني ومنه، سألته بعد طول صبر وعناء : أسعيد أنت يا سعيد ..؟ فضحك شامتاً مني لمعرفته بما كنت كتبت سابقاً وأجاب : طبعاً، قد كان والدي رحمه الله ذكياً حين أسماني "سعيد".... رحم الله أبا سعيد، كم كان مستشرفاً للمستقبل، رغم قناعتي أن الكثير ممن اسمهم كاسم جاري "سعيد" ليسوا متمتعين بالسعادة التي يتمتع بها جاري.
لن أحبط سعادة سعيد، ولن أكشف سرّه للحكومة، إنه جاري وسأدعه متمتعاً بسعادته كما اسمه، سأدع الكرة في ملعب حكومتنا الرشيدة لاختبار قدرتها في كشف من لا يتقدم ببيانات صحيحة، وقدرتها في كشف الحقائق ومدى معرفتها أكثر مني ومن جاري "سعيد"
سأكشف السرّ لكم جموع القارئين لمعرفتي أن حكومتنا من فرط رشدها لا تقرأ ما يكتبه المغرضون... إن لجاري "سعيد" سجلاً تجارياً منذ أعوام عشرة سبق أن أقنعته بالحصول عليه لمصلحتي التجارية، وقد نسيه لعدم لزومه له.
أرجو من الله سبحانه وتعالى، وعسى أن يقبل دعائي ورجائي كقبوله دعاء ورجاء إخوتنا حجاج بيته الحرام... أرجوه مسامحتي بداية للسجل التجاري الذي حصلت عليه باسم جاري السعيد، وأرجوه ألا تصادف أية لجنة دولية سرية جديدة جاري "سعيد" ، وألا يصادفه أحد من المهتمين أو المتابعين أو الناشطين في الحقل العام الدولي، لأننا بذلك سنحصل على المرتبة الأولى في سلم السعادة العالمي كشعب سوري سعيد بل ومتمتع وطافح بالسعادة.
ادعوا معي حماكم الله

04‏/12‏/2009

مأسسة الطائفية في سورية


ليس حديثنا اليوم سرداً ذاتياً، بقدر ما هو غوص في الأعماق، وذلك بحثاً عن الإجابات للأسئلة الكثيرة التي طرحها المهتمون بالشأن السوري، وقد يطول أو لا يطول بنا المقام في استقصائها قدر ما استطعنا.
بما أن الحديث القديم - الجديد الدائر عن الطائفية في سورية ، بات محوراً لكل المتابعين ، فإننا وبكل موضوعية سنضع القارئ أمام ملاحظات حية من وحي الواقع السوري الراهن ، بما يتوافق أو يتعارض مع أطروحات النظام السوري و المعارضة ، لكن الحقيقة لا بد أن تقال ، حتى وأن كانت نسبية على مراحل متتالية ، إدراكاً منا باستحالة امتلاكها ، إلا أن الاقتراب منها ، يعني التعرف عليها وتعريف الآخرين بها .
والحقيقة أن الطائفية مثلها مثل أي عملة، لها وجهان، وجه أبيض ووجه أسود، ولا نقول وجه حسن وآخر قبيح، احتراماً لعقل القارئ ومشاعره النبيلة.
يظهر الوجه الأبيض للطائفية في كونها حقيقة قائمة في كل مجتمع إنساني على وجه الأرض ، ورغم اندراجها في خانة الأقليات ، إلا أن بياضها كناية عن الغنى الثقافي والتراثي ، فضلاً عن صور التعايش والتسامح القائمة بين أفرادها .
أما الوجه الأسود، فيتجلى في الاتجاهات التعصبية لطائفة بعينها، وذلك عبر رفضها العيش والتعايش مع الآخر، ورفضها الاعتراف بكيانه السياسي والاجتماعي ، بما يصل بها المقام إلى حد الاستعلاء الباعث على تكريس العنصرية في نهاية المطاف كأحد أوجه العصبية الطائفية .
هذان الوجهان الطائفيان يتداخلان أشد التداخل في سورية اليوم ، والدليل على الطائفية وعلى سقمها ، الذي لا يحتاج إلى طبيب أو باحث ، أنها واضحة وضوح الشمس في رابعات النهار ، لكن الجديد في المسألة ، أن الطائفية لم تعد بوصفها داء مقيتاً ، حلقة مفرغة من حلقات النظام السوري تدور في ثناياها السلطة والمجتمع في ما يشبه الشرنقة التي استحوذت على الداخل بفعل تأثيرات المحيط الإقليمي ، وهي لم توفر أحداً من مثقفي النظام ، بل غدت الطائفية ككيانات متعددة في جسم واحد ، هو جسم النظام .
فثمة كيان عسكري وآخر سياسي وثقافي وحتى فني ورياضي ، إلى الحد الذي جعل الطائفية في سورية مؤسسة قائمة بذاتها ، أي اختزال الطائفية في مؤسسات الدولة الوطنية الأولى منذ الاستقلال ( الأول ) أو لنقل مأسستها ، أي مأسسة الطائفية من خلال ترويضها وتوظيفها في مؤسسات الدولة .
كما لا يمكن تحميل تيار سياسي بعينه ، مسؤولية الإغراق الطائفي للمجتمع ، بما في ذلك حزب "البعث" ، الذي لا يملك من أمره شيئاً ، سوى أنه كان ولا زال حتى الأمس القريب واجهة من واجهات السلطة ، وبالتالي ستر عوراتها الطائفية .
بكل الأحوال ، لا يوجد أدنى مبرر لاستفحال أزمة الطائفية والتهامها لهياكل الدولة كما في الحالة السورية ، سوى الخوف من المصير المجهول الذي ينتظرها في المستقبل ، والسؤال هنا ، ما الذي دفعها ودفع النظام السوري إلى مأسسة ذاته الطائفية ، أهو الخوف من الماضي على حساب معطيات الحاضر ؟.
يعلم النظام السوري ، كما نعلم واقع الطائفة العلوية وموقعها في بنية المجتمع السوري من النواحي كافة ، كما نعلم حجمها السياسي والثقافي في الماضي والحاضر ، وهو يتساوى إلى حد كبير ما لدى الطوائف الأخرى من تاريخ وحضور كبيرين على الساحة السورية ، لكنه وبجميع الأحوال ، لا ينبغي لأحد أن يسمح لنفسه أو لطائفته بتخطي حدود الدولة باسم الوطنية أو الهوية السورية ، حتى الأخيرة باتت مزيفة بفعل الطائفية .
فما معنى أن يحمل السوري هوية لا يستطيع بها أو من دونها ، أن يصبو إلى أحلامه وأهدافه ، لتبقى من نصيب غيره ، من ذوي اللون الذي يتطابق مع لون النظام ، ولا نبالغ إذا ما قلنا ، أن الهوية السورية جرى قضمها بفعل التزييف والتهميش ، فهي ثمينة في سوق النظام ، ورخيصة في سوق السواد الأعظم .
إن الطائفية في سورية ليست حالة اجتماعية مثلها مثل الحالة اللبنانية أو العراقية ، لقد كانت بالأمس البعيد حالة اجتماعية لا علاقة لها بالدولة ، لكنها باتت اليوم حالة سياسية مقنعة ، أتت على المجتمع والدولة ككل واحد ، وأخطر ما في الأمر انتقالها المنظم من ثنايا المجتمع إلى قلب السلطة فالنظام ، ولا نعلم إلى أين ستصل مستقبلاً .