في الطريق إليه، كنت أفكر ببراءته، وهو الذي قضى حكما بالسجن مدته خمس سنوات، بتهمة اختلاس بضعة ملايين.
لماذا يرفض البرئ أن يذكر اسمه أو تنشر صورته؟
برر هذا التساؤل بأن القصة قديمة ولا يريد فتحها من جديد، ليس من أجله، فهو لم تعد تهمه -كما قال- بل من أجل أبنائه.
في معمله الكائن في احدى القرى القريبة من دمشق،والتابعة لمحافظة أخرى، يتربع في مكتبه، كملك، وقبل أن يبدأ بالحديث يشعل سيكاره الفاخر، سألته:
• قضيتك كانت اختلاس؟
• أبدا، ولا أسمح لأحد أن يتهمني بالمختلس، أتحداك، وأتحدى أي إنسان على وجه الكرة الأرضية، أن يثبت بأني ارتشيت بقرش أو اختلست قرش، لفقت لي التهمة ليتخلصوا مني ويبعدوني عن المكان الذي كنت مؤهلا لأكون مديره، أخفتهم أن آخذ الكرسي منهم، فوجدوا السجن، الحل الوحيد لإبعادي.
بالرغم من الحكم والسجن الا ان الرجل يصر على براءته، وبالرغم من منبته ومنبت زوجته الفقير، الا انه اليوم يملك الكثير من العقارات، ورصيده البنكي تجاوز الملايين، وعندما لمحت له من بعيد لهذا الموضوع، استغربت برودة أعصابه، وجوابه الجاهز،كمن اعتداد على تكراره مئات المرات :
• المال يخص زوجتي، بصراحة أنا أعمل عندها.
طبعا لم أستطع الوصول إلى فاسد أكبر من هذا الفاسد الصغير الذي يحظى باحترام مجتمعه، والذي ينوي أن يجد الحل القانوني ليرشح نفسه لعضوية مجلس الشعب،!!!!
اعتدنا، ومنذ زمن، أن الاحترام بات للمال، لا أكثر ولا أقل، ولا أهمية لأي شيء سواه فهو البلسم السحري الذي يمحو كل التواريخ السوداء.
حلم بالفساد
وصل الفساد الى كل شيئ وبكل شيئ أحدهم أراد ترشيح نفسه لمجلس الشعب، فقط من اجل الحصول على القرض المصرفي الذي يعطى للمرشحين لتغطية حملتهم الانتخابية وبفوائد استثنائية ويسدد على مدى خمس أو ست سنوات – ألا يعتبر هذا فسادا- ما يثير التساؤل ليس ما وصل إليه الفساد أو إلى أين وصل، بل نفوسنا التي أصبحت لا تعيفه، ومجتمعنا الذي انتقل في فترة قياسية من استنكار للفساد، والاستبعاد الاجتماعي لمن تثار حولهم مجرد الشكوك بفسادهم، إلى تخطي مرحلة تقبلهم والوصول إلى احترامهم وطلب ودهم والسعي خلف صداقتهم.
عادة القبول
المهندسة رضوى الناعمة تقول: (( لم تعد لدينا مشكلة في التعامل مع الفاسدين لأننا أصبحنا نخافهم، والفاسد نفسه لم يعد يخجل من فساده لأن القيم تبدلت، والثوابت لم تعد تلك التي تربينا عليها من خير وشر ولم يعد العيب سابقا عيبا اليوم، في الماضي كان المرتشي يمشي في الحارات مطأطئً رأسه، يخشى أن يعلم أحد جيرانه أنه ارتشى، وأن في جيبه قرش حرام، أما اليوم فهو نفسه يتفاخر بمكتسباته ومعارفه وماله الحرام، ولم يعد الفاسد يخشى الناس بل انتقل الخوف الينا، أصبحنا نحن من نخاف الفاسدين، لإدراكنا أن الفاسد باعه طويلة، وله نفوذ كبير مهما بلغت درجة فساده أو نوعه، ويستطيع الوصول الى مسؤول والتأثير فيه، لأنه متقن لعمليات التزلف ومسح الجوخ، أما فيما يخص المعاملات الرسمية فنحن من نبحث عن الموظف الفاسد ولا نتحاشاه، ونفضله عن الموظف الشريف لأن التعامل مع الموظف الفاسد سيكون أسهل من التعامل مع الموظف الشريف، لأن الفاسد سيسهل علينا أي معاملة مهما كانت درجة تعقيدها، ويسرعها، وهنا أؤكد أن المعاملة التي تكون بين أيدينا هي قانونية مئة بالمئة، ولكن سرعة إنجازها هو الغاية، أو فيما يتعلق بالخدمات فنحن نسعى حلف موظف الهاتف الفاسد وموظف البريد الفاسد وموظف الجباية الفاسد لأن هذا سيلبي طلباتنا بسرعة ودون روتين، اذ يستطيع أن يقدم الخدمات الى المنزل برشوة بسيطة أو اكرامية كما يسميها دون انتظار الدور ، وشرطي المرور الذي يقبل اكراميته اسهل من آخر يصر على تطبيق القانون وهم اصلا نادرون، وهناك موظفون لا يرتشون ولكنهم يقبلون الهدية وهذه الهدية قيمتها بحسب قيمة مركز هذا الموظف، فهناك ثقافة عامة وهي الثقافة الاكثر انتشارا بين الناس وهي ثقافة تقبل الفساد))
حزب مادخلني
وزير الصناعة السابق الدكتور حسين القاضي صاحب أول استقالة في تاريخ الوزارة السورية رأى أن السبب الاول والاخير لتقبلنا للفساد، أو لنقل لتفشي ثقافة الفساد بشكل عام هو التردي الاقتصادي الذي وصل اليه وضع المواطن، في ظل فئات وصولية تحصل على ما تريد، وتجني ما تريد، وبسبب غياب القانون كسلطة تطبق بالتتساوي على الجميع، ظهر الى النور حزب جديد اسمه – ما دخلني – وأصبحنا جميعا أعضاء فخريين أحيانا وفاعلين معظم الاحيان في هذا الحزب حتى أصبحنا لا نتأثر بوجود الفاسدين بيننا، وبتنا نعتبر وجودهم أمر واقع بل وأمر طبيعي لأن – ما دخلني – هذه أصبحت تدخل في تفاصيل قيمنا، وتعشش في أجزاء تفكيرنا فما دخلني ان كان فلانا فاسدا أو لا، وما دخلني ان كان فساده يؤذي المجتمع ويؤذيني، وما دخلني إلى أي درجة وصل الفساد اجمالا، ومن هنا بتنا لا نهتم الا بما يحصل خارج دائرتنا الاقتصادية اللاهثة خلف الرزق، وهذا في نفس الوقت أصبح يبرر للآخرين فسادهم كمستفيدين حتى وصل الامر للقول حلال على الشاطر، وبدأت تطفو على السطح فئة اجتماعية مستفيدة تتمتع بالنفوذ، والمال الذي أصبح يصنع الجاه، ويشتري المكانة الاجتماعية .
ضياع البوصلة الضابطة
التقبل الاجتماعي للفساد والذي يعتبر أخطر من الفساد نفسه، يحلله أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق، ورئيس قسم الاعلام الدكتور أحمد الاصفر فيرى أن مجتمعنا العربي تعرض في فترة الحرب العالمية الثانية الى نوع من الانحلال الاجتماعي يقول : (( ضاعت عوامل الضبط الاجتماعي، وفقد الضابط الديني الذي كان يحد تصرفات الفرد بالحلال والحرام، وفقد الضابط الاجتماعي فما هو عيب، كان في الماضي يعتبر ضابطا قويا لتصرفات الافراد وكانت الاسر مجتمعة تخشى على سمعتها وتلتزم بالقيم الاجتماعية والاخلاقية، وتحمل قيمة لكبيرها أي كبير العائلة فكلامه قانون، وبالتالي فالفاسد مهما كنت درجة فساده ونوعه لم يكن يجرؤ على الفساد حتى لو أراد ذلك أو حتى لو كان مضطرا للفساد، والناس كانوا يستطيعون أن يجاهروا برفضهم للفاسد لأنهم الاكثرية ولأنهم الاقوى، ولكن منذ خمسين عاما الى اليوم تبدلت المنظومة الضابطة للاخلاق الاجتماعية بشكل كبير، فظهرت تيارات نخبوية، تمردت على القيم السائدة واعتبرت قيم العيب تخلفا، والرادع الديني تزمتا غير مبررا، ولكن هذه النخبة لم تكن تقبل الفساد، ولا تروج له، ولكنها لم تضع ضوابط بديلة لتلك الضوابط التي الغتها،فاصبحت المنفعة هي المعيار الاساسي في السلوك، هذا على مستوى التطبيق العلمي للنظريات الاجتماعية على الواقع، أما على المستوى الاعمق، فعبر زمن ليس بالقليل فقد الفرد الثقة بالسلطة التنفيذية متمثلة بالقضاء، وساد مفهوم المصلحة، والمحسوبية، والواسطة. ثم بدأت تطفو على السطح قضية تردي الاوضاع الاقتصادية للمواطن، وعدم كفايته من مرتبه أو أجره، ما دعاه ضمنيا الى تبرير الفساد المالي، لنفسه، ولغيره على حد سواء، وما زاد الامر سوءا الاضطراب الذي بدأ يتلمسه المواطن لدى مؤسسات دولته، الذي لمسه من خلال سياسات الاستيعاب الجامعي التي أهلت كوادر وخرجتهم لكنها لم تستوعبهم في سوق العمل، ما يدفعهم الى محاولة الحصول على عمل إما من خلال الرشاوى، أو الواسطة، أو انهم سيختارون الطريق الفاسد أخلاقيا كالنصب والاحتيال، أو الاتجاه الى طرق فساد أخرى من شأنها أن تقيهم العوز، وبالتالي هؤلاء ليس فقط سيتقبلون الفساد، وإنما سيصبحون جزءا من منظومته، وقواه المدافعة عنه.))
حديث الدكتور الاصفر جعلني أفكر بفساد من نوع جديد، نتلمسه في سياستنا في محو الامية، وصولا الى سياسة الاستيعاب الجامعي، وصولا، الى الجامعات الخاصة التي فتحت المجال واسعا أما الفوارق الاجتماعية في اختيار نوع الدراسة ليكون الطبيب ابن العائلة الغنية ومن لا يملك مالا وفيرا فليكتف بجامعة على قد الحال وليدرس فرعا على مستوى ماله.
فما لاحظناه بعد تنفيذ سياسية محو الامية لعقود تجاوزت الثلاث، أن نسبة المثقفين انخفضت، فلم تعد ترتبط الثقافة بالعلم، لنصل إلى أرتال من المتعلمين، لا علاقة لهم بالثقافة، ولا مكان لهم في سوق العمل، وهنا تبرز ضرورة وضوح الرؤية لدى المؤسسات القائمة على الأمن الاقتصادي للمواطن كحد أدنى لحمايته من الفساد بمختلف أشكاله، فإن لم على أرض الواقع عملا لخريجي الاعلام على سبيل المثال لا الحصر، لماذا يستمر القسم باستقبال الطلبة، وان كانت المؤسسات لا تأخذ مدراءها من خريجي المعهد الوطني للادارة ولا تعترف بهم فلماذا تتكلف الدولة عناء بقاءه على قيد الحياة، والصرف على ميزانيته ورواتب مدرسيه وموظفيه، ألا يعتبر هذا هدرا؟! ألا يتعبر الهدر نوعا من انواع الفساد؟! وأذكر أن أمثلتي على سبيل المثال لا الحصر.
الشريف غبيا
ببساطة أصبحنا مجتمع بلا هوية، ولا ضوابط، هذا ما أراد المهندس حمد نصر أن يلخص به تجربته الخاصة التي تمثلت بعمله باحدى المؤسسات العامة، والتي تتميز بامكانية استفادة موظفيها- بشطارتهم- وعبر ثغرات قانونية تحميهم لكنه أصر ألا يستخدم هذه الشطارة لينعته البعض بنعوت أصبحت تطلق على كل شريف، وينتقل الى مؤسسة أخرى لا مجال فيها لا للفائدة ولا الاستفادة، يقول المهندس نصر : (( أصبح مبدأ الشاطر لا يعني الا شيئا واحدا، وهو كيف يعرف الشخص أن يستفيد من موقعه مهما صغر،ومن يحمل مبادئ أخلاقية ويرفض مبدأ الاستفادة، لا يجوز أن يبقى في مكان تتاح فيه الاستفادة، وبقاء الاشخاص في مثل هذه الاماكن ووصولهم الى مفاصله لا يرتبط، بمهنيتهم، وانما فقط بمعيار شطارتهم تلك، ولهذا أصبحنا نقبل الفساد لأننا نعرف أن الفاسد قد يصل بين ليلة وضحاها إلى مفصل مهم قد يساهم في ضررنا أو محاربتنا في لقمة عيشنا، واجتماعيا ذاك الفاسد لأنه يملك حدا أدنى من الثروة، وحدا أدنى من المعارف المفيدين له ولغيره إن أراد الوساطة أو التوسط للآخرين، وببالتالي المجتمع سيعتبرني أنا وأمثالي أغبياء لأننا لم نعرف كيف نستفيد من موقعنا، وهربنا من الرزق!!!! ))
بلاط خاص للبحار
((من كثرة ما رضينا بالفساد لم يعد لدينا شخص غير فاسد بل الأقل فسادا ً)) هكذا بدأ بالاسترسال، لموضوع من الواضح أنه أرقه طويلا خاصة في اروقة المحاكم ويتابع المحامي عارف حمزة : (( و هذا الأقل فسادا ً هناك من يقوم بملاحقته و طرده و القبض عليه لأنه وقف ضد تيار الفساد العالي و الرهيب .
من كثرة ما رضينا به أصبح لدينا ، و بأمانة كبيرة ، شعور جمعي بالفساد .
أصبحنا نقف إلى جانب اللص و المرابي و الخائن و غير الشريف و القافز من فوق القانون و المتكلم طويلا ً من دون فعل ، و الذي يصنع ضجيجا ً هائلا ً من دون شفقة بنا أو رحمة ، و الذي يهددنا بأبيه أو بماله أو بمركزه أو بسيارته أو ، بكلمة أدق ، بفساده المتراكم عبر زمن أصبح طويلا ً و ثقيلا ً .
مَـن كان يماطل في حق أحد ما يقول له صاحب الحق ، بعد أن يكون قد استنفد طرق الحصول على حقه أخويا ً و بالكلمة الحلوة كان يهدد بالذهاب إلى المحكمة و القانون بيننا .
كان الشخص الذي يماطل يصاب برجفة قوية عند ذكر كلمة المحكمة . و بمرور الزمن أصبح يصاب برجفة أقل . أما الآن فإنه يضحك قائلا ً لصاحب الحق : روح بلط البحر ... و بالفعل هذا الكلام صحيح . فما إن يذهب أحدنا إلى المحاكم حتى يأخذ معه شاحنة كبيرة من " البلاط " و يبدأ بتبليط البحر من أمام القصر العدلي .
في السابق ، رحمة الله على السابق ، كان صاحب " مركز ما " يخاف من الله ، ثم أصبح ، على الأقل يخاف من ضميره و على سمعته و كرامته ، و من بعدها يخاف من القانون حتى يعرف ثغراته . أما الآن ، و بشكل ٍ علني و صريح ، أصبح لا يخاف من أي شيء .
الفساد ، يا سادة يا كرام ، أضاع سلطة الأب و سلطة الزوج و سلطة المدير و سلطة القاضي و المحامي و سلطة المدرس و المربي و سلطة الحارس الليلي و أمين المستودع و سلطة الكاتب و سلطة النائب في البرلمان و سلطة الغيور على وطنه، و في النهاية أضاع سلطة القانون و الحق و المؤسسات .
سيقول من سيقرأ هذه الكلمات بأنني متشائم جدا ً ، و بأن الإصلاح سيقضي تماما ً على الفساد . أتمنى ذلك . رغم أن الفساد لم يعد صرحا ً كبيرا ً و سيأتي يوم ما و نهدمه ، و لم يعد جدارا ً صغيرا ً في وجه طريقنا و سنزيحه عن الطريق ، و لم يعد شخصا ً مطاردا ً سنمسك به يوما ً و نطلق عليه النار، لم يعد الفساد شيئا ً ماديا ً محسوسا ً يمكن المسك به و طرده إلى خارج المكان لتتدفق مياه الإصلاح العذبة . بل الفساد أصبح معنويا ً لارتباطه بأشخاص و أفكار و قوانين و أماكن معينة تقف بقوة في وجه الإصلاح . أصبح الفساد مقيما ً ، و ليس طارئا ً ، في كل شيء و في كل مكان .))
حالة نفسية بامتياز
الطبيب النفسي محمد وضاح حجار برر قضية تقبلنا للفساد نفسيا بأسباب علمية تعود الى عوامل التحكم بالسلوك لدى البشر فيقول: (( الانسان بيولوجيا، مستعدا للدفاع عن الانا التي في داخله، وهذا يترافق مع نوعية من الأفكار والمعتقدات التي يتربى عليها الإنسان والتي يكتشف مع مرور الوقت أنها لا تحقق طموحه وبالتالي تجعله يحيد عنها، فالأفكار التي تسود في المجتمع تدعم هذا السلوك فعلى سبيل المثال، يجد الانسان أن لا وجود على أرض الواقع لمقولة الرجل المناسب في المكان المناسب، ويجد أن المعارف وأمور أخرى تحكم هذا الموضوع ما يؤدي الى تغيير قناعاته، فالمعتقدات التي تزرع في ذهنه عندما يكون طفلا، ينتقيها بعد ذلك ويتمثلها.
الامر المهم الاخر وهو سيادة الافكار المادية فنظرة الناس الى القيم المعنوية لم تعد تحاكيها الحالة الروحية مثل السعادة اذ اصبح المقياس ماديا بحتا ويجد الانسان ان القيم التي يتبناها لا تتماشى مع ماهو راهن ولا تحقق له المنفعة فيتم تحوله الى قيم اخرى ليتخذ معتقدات تتوافق مع ما هو سائد في المجتمع، ويكون هذا التحول – حسب الشخص- اما تدريجيا أو انقلابيا فجائيا، وهذا ما يحصل اليوم في مجتمعنا اذ يجد الانسان نفسه أما الضغوطات الاقتصادية، ونجاح الفاسدين وتفشي الفساد، يجد المجتمع نفسه منساقا في حالة نفسية تبرر الفساد وتجده جيدا أحيانا لتطلق قيمة جديدة عليه _ جيد _ أو خير_ كبديل بديهي عن القيمة القديمة التي كانت ترتبط به ذهنيا مثل _ سيء_ شر _ حرام_ وهذا التبدل بالقيمة الذهنية والفكرية تجاه قضية تقبل الفساد لم يكن فجائيا بل أتى نتيجة تراكم اجتماعي وجد أن الفساد وصل بأصحابه الى النجاح والمال والجاه ما جعله مبررا نفسيا ومقبولا لدى الاخرين وسيكون مثلا أعلى في تطور مرضي لاحق عند الاشخاص اللذين يتعرضون للصراع الداخلي بين الانا والضمير.
فساد نسبي
بالرغم من ابتعاده عن أوساط الفساد والفاسدين، وانشغاله بعمله الثقافي، وترجماته التي يعتبرها حياته، يبقى صالح حلماني متفائلا بجيل الشباب مصرا على أنهم لا يقبلون الفساد، ولا يسبحون في تياره، لكنه وفي نفس الوقت لا يلومهم اذا استساغووا بعض الادب الردئ، كنوع من الفساد، ويجد أن لا ذنب لهم في تقبل فساد الادب ويبرر: (( عندما نقدم للجيل أدبا رديئا، ثم نقدم له أدبا أردأ من الاول ثم نقدم الاردأ فيصبح الادب الرديء الاول أدبا جيدا مقارنة فيما تلاه حسب النظرية النسبية، وبالتالي لا لوم على شبابنا اليوم بتقبل هكذا أنواع من الادب)).
ثم يجد علماني أن للوضع المادي المتردي يدا كبيرة في فساد كل شيئ ، فحتى دار النشر تضطر لنشر كتب لا تقتنع بمحتواها لمجرد كونها عناوين بياعة أو مواضيع تبيع أكثر، والناس كذلك قد يضطرون لفعل أشياء كثيرة تحت ضغط الوضع المادي والحياتي ثم يعود علماني الى نقطه الاولى ليؤكد أن الفساد لا يتجزأ فالادب الردئ هو فساد، ووضع موظف بغير مكانه فساد، وازاحة الكوادر الكفوءة من مراكز أدنى حتى لا يشكلوا خطرا في اخذ المراكز الاعلى فساد، والاغنية الحديثة الهابطة فساد، والاسفاف في التعري على الشاشات فساد، وتلحين كلمات تافهة بلا معنى فساد، وهكذا الى أن أصبح بعض كتاب الادب الردئ الجدد يعتبرون أنفسهم منافسون أكفاء لمركيز شخصيا، والمشكلة أنهم يقبلون في اتحاد الكتاب، ويسموا أدباء بالقوة وطبعا هذا من أجل أن يكسب القائمون على تنسيبهم أصواتهم الانتخابية في الانتاخابات العامة، ويعطونهم أكثر من حقهم، ويروج لهم في ندوات وأطروحات ودراسات ولقاءات، ويبجلون حتى يحتفظ من أدخلهم الى الاتحاد بولائهم له، وبالتالي بأصواتهم الانتخابية الدائمة.
طرف ثالث.... طرف حل
عادة ما تشكل مؤسسات المجتمع المدني، طرفا ثالثا- بعد القطاع الحكومي والقطاع الخاص- مهمته مراقبة أوضاع المجتمع والدولة، وتقييمها وتقديم تقارير تحليلية وحلول رؤوية لتشارك الدراسات الحكومية حول الظواهر الفاسدة والتعاضد لحلها خاصة أن مؤسسات المجتمع المدني تعتبر الرديف الرئيسي للؤسسات الحكومية وعلى عاتقها تقع مسؤولية نهضوية للمجتمع بأكمله، لكن ما ظهر من هذه المؤسسات في سورية كان في فئتين رئيسيتين الاولى جمعيات حصلت على ترخيص عملها من وزارة الشؤون الاجتماعية وهذه الفئة من الجمعيات غلب على اختصاصاتها الطابع الخيري أو كل ما له علاقة بالطفولة والامومة والامراض مثل الجمعيات التي رخصت مؤخرا للعناية بمرضى السرطان، أما الفئة الثانية من هذه الجمعيات فلم تحصل على ترخيص ولم تختص الا بحقوق الانسان، وجل اهتمامها كان رصد انتهاكات السلطة للحقوق السياسية لفئات محدودة من المواطنين، وبالتالي وفي كلا الفئتين لم تصل في عملها الى المؤسساتية فأخذت طابعا شخصيا تمحور حول القائمين عليها، الأمر الذي حال دون وعيها الكافي لحقيقة مسؤوليتها ودورها الرقابي والتصحيحي والتشاركي مع المؤسسات الاخرى للوصول الى النتائج المرجوة من عملها.
المهندس حمد نصر في محاولة للتوصل الى إلغاء هذه الثقافة العامة التي تقبل المتفشي في مجتمعنا يتساءل: (( لماذا لا نؤسس جمعية مهمتها محاربة الفساد على مبدأ جمعية حماية المستهلك وليكن اسمها جمعية حماية المجتمع اوجمعية محاربة الفساد، ولتأخذ دورها كما يجب، في محاولة توعية المجتمع على ضرورة الوقوف بوجه الفاسدين وإقصاءهم ليعرفوا أنهم يدفعون اجتماعيا ثمن أفعالهم.))
أما المحامي عارف حمزة فيمسك بطرف خيط عله يوصلنا الى طريق القضاء على هذا الفساد الذي اعتبره حالة راهنة مقيمة يقول : (( اذا سألت َ الفساد يوما ًما، كيف نقضي عليك ستدمع عيناه من الضحك، ولكن محاربة الفساد تكون عادة، بإعادة الهيبة للقانون ومؤسسات الدولة و المواطن، وبالتالي ستعود ثقة المواطن بالقانون وعندها لن يقبل الفساد ولن يحترم الفاسدين، لأنه ببساطة لم يعد يخشى نفوذهم.))
وفي حل أكيد رآه الدكتور حسين القاضي: (( نحن نحتاج الى ليبرالية جديدة حتى نستطيع القضاء على الفساد بانواعه، وليست ليبرالية ايديوليوجية فقط، بل ليبرالية فكرية وليبرالية ثقافية وليبرالية اجتماعية أيضا ، ولا نظن أننا نحارب الفساد ببناء جيل على قيم جديدة مناهضة للفساد لأن هذه الشريحة نفسها ستفسد مع الزمن طالما هناك فاسدين،إذن فلنبدأ بازاحة الفاسدين من أماكنهم دون خوف.))
الاسرة، المدرسة، مجتمع نظيف......
المهندسة رضوى ناعمة تجد أن الخطوة الاولى لبناء مجتمع يرفض الفساد تبدأ من الاسرة والتربية التي تزرع الرادع ا؟لأخلاقي لدى أبناءها بعدم قبولهم للفساد كحالة، وتشجعهم لعدم الخوف من مجابهة الفاسدين وعدم التعامل معهم أو تقبلهم، فلا بد أن تمحى كلمة ما دخلنا من قاموس اسرنا لأن التربية هي الاساس ويدعمها المناهج المدرسية المتكاملة منذ سنوات الدراسة الاولى الى المراحل التعليمية المتقدمة والتي تركز على قيم الخير والشر والصح والخطأ، وسيادة القانون وتوجه الجيل الى رفض كل ما هو خاطئ من قيم ومبادئ واستبداله بالقيم الجيدة التي نريد زرعها في المجتمع.
أما الدكتور محمد وضاح حجار فيقول في محاولة وصوله الى بداية للحل : ((السلوك الإنساني هو نتيجة تدريب تتدخل فيه العائلة والمجتمع والذي يجعل من الفرد ضعيفا أمام الفساد أننا نعيش في مجتمع يؤمن بعقيدة القطيع، فالأهل دائما يركزون في تربيتهم على تجنب الأولاد الدخول في صراعات وحتى على صعيد الأسرة وداخل المنزل يكون الأب غير قابل للنقاش فهو وبنحو غير مباشر يدريب أبناءه على الصمت، فغدا الفرد يعتقد أنه لا يستطيع أن يصل إلى حقه بطريقة مقبولة والتي هي أساس تقبل الفساد فالفرد الصالح لا يستطيع الحفاظ على حقوقه أما الفرد السيئ يستطيع تحصيلها والحفاظ عليها قد ينتبه المجتمع لهذا الخلل ولكن ذلك قد يحتاج إلى وقت طويل لتقويمه ولا بد أن تكون المؤسسات والأفراد متنبهين ومتيقنين بأهمية التغير الذي سيطرأ ومستعدين إذا لاحت بوادر النية الصادقة، فالمعتقدات والسلوك هو نتيجة لتدريب نتيجته تكون في تبني الإنسان لمعتقدات وأفكار التدريب- الافكار الجديدة- هو من يجعل الإنسان يتقبل أفكار ويدمن عليها، وهذا يوضح ان السلوكيات ما هي الا نتائج تدريب، وبالتالي الحصول على عكس النتائج يحتاج الى تدريب على المدى الطويل أي أننا اليوم نحتاج الى الترويج لثقافة جديدة تحارب ثقافة الفساد والى تدريب نفسي واجتماعي نوعي يمهد الطريق أمام قيم جديدة ترفض الفساد تحل محل القيم المتقبلة للفساد، ولا ننكر أن المسألة تحتاج الى وقت وقد يكون طويلا نوعا ما.))
هذا مجمل عن أراء، شخصت ثقافة الفساد السائدة، وحاولت تشريحها كظاهرة، لتعطينا بدايات لحلول، رأتها معقولة وناجعة، كي تمكننا من استعادة ثقتنا بأنفسنا، لنكون قادرين على امتلاك مستقبلنا ورسمه كما نريد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق