وقد كان النظام السوري عبر تاريخه يحتقر المعارضين ولا يلقي لهم بالاً ويتحدث عنهم كنكرات، ما عدا فترة بداية تحدي الإخوان المسلمين له وإدراكه لإمكانياتهم. وقد خطب الرئيس الأسد (الأب) في تلك الفترة في أحد مؤتمرات الفلاحين أو ما شابهها وكان صوته المتهدج ببحته المعهودة يوحي كم كان الأمر خطيراً وقتها، وقد عرض مسيرة تفاوضه مع الإخوان تحت لازمة: قلنا لهم... وقلنا لهم.. بما فيها عرض حقائب وزارية عليهم، وأعلن يومها انه مسلم (...) في محاولة لنزع أحد الأوراق التي استخدمها الإخوان المسلمين ضد رأس السلطة.
فيما بعد وحينما تم إنهاء الإخوان على الأرض بحرب شرسة استخدم فيها الطرفان كل أسلحتهم المتاحة، أصبحت (المعارضة) في خبر كان وآلت إما إلى الصمت أو القبر وإما إلى سجون النظام الوحشية التي لو سجن فيها حجر لانهارت عزيمته
الإعلان كمدخل أول:
إن المنضوين تحت إعلان دمشق لا يمكن لهم تجاهل تلك الفترة إلا أنهم يعون أن الزمن تغير ولم يعد يستطع النظام أن يمارس وحشيته السابقة بحقهم على الملأ وأمام العالم كما حدث مع الأخوان وغيرهم من معارضي اليسار السوري. وهكذا يكون الإعلان قد مثل خطوة متقدمة من ناحية واحدة فقط هو القول بتغيير النظام وبالتالي كسر تابو الخوف أمام جمل من هذا النوع كان يهاب الاقتراب منها كل معارضي الداخل وبعض معارضي الخارج.
وقد جاء الإعلان مشتملاً على صيغة (وصياغة) المحاصصة وليس التمثيل، وهي مسالة غير مهمة في هذا السياق لأنها تعبر عن هشاشة الواقع السياسي السوري وفاعليته الوطنية، وهذا الأمر لايخص سوريا وحدها بل كل الدول التي حكمتها أنظمة شمولية طاغية، لتشكل هذه المحاصصة العثرة الجدية الأولى في فاعليته «الوطنية». وقد ثبت لاحقا عدم أهمية الإعلان على الأرض فهو لا يزيد في أهميته الواقعية عن أهمية أي بيان آخر من سيل البيانات التي اعتادت (المعارضات) إصدارها كلما دق الكوز بالجرة! والتي ترتفع وتيرتها وتنخفض بحسب استرخاء القبضة الأمنية للنظام وتشديدها، وذلك فيما يخص معارضي الداخل.
وإذا كان الإعلان هو مسألة «خطابية» في ترجيعة صداه الأساسي، فإن أهميته لا تكمن في صياغته ولا في القوى المنضوية تحته لأنها قوى ليس لها وجود فاعل وحركي على الأرض، بل في الخطوة التي مثلها في الحديث لأول مرة من دمشق عن «تغيير النظام» ديمقراطيا وسلمياً!
وقد استعاضت ( المعارضة ) السورية عن وجودها الفاعل على الأرض (الذي تحكمه ظروف موضوعية وذاتية) بالوجود الإعلامي (الفاعل) فقد وفر لها فضاء الانترنت وجودا آمنا وكذلك وفرت لها وسائل الإعلام الأخرى من فضائيات وصحف حضور صوتي وكتابي يوحي لمن لا يعرف سوريا أن النظام يوشك أن يسقط بعد قليل؛ فوجودها الفاعل على الانترنت؛ يجعل من يتابعه يعتقد أن النظام قد تحطم! وسيظن من يقيم في أستراليا مثلا أنه لن ينهي قراءة الخبر الذي «بيده» أو المقال إلا ويقرأ على أحد المواقع النتيه (إن لم يكن لديه فضائية العربية أو الـ ANN) خبرعاجل: سقوط النظام السوري...
ويلاحظ المتابع أن كل المحتوى السوري على الانترنت هو محتوى معارض ولا وجود للنظام إلا عبر أشكال هامشية لا يمرها احد، وقد التفت النظام إلى هذا الأمر في الفترة الأخيرة فحجب كل مواقع الانترنت والصحف التي لا توافق مسيرته النضالية.
وقد كان لافتاً في الإعلان الدمشقي انه دعا كل أطياف المجتمع بما فيهم البعثيون و... إلا أنه ونتيجة لـ «شخصنة» الوعي السياسي والتي تؤدي في الغالب إلى هزاله وتغييبه لدى القوى التي يمثلها أو تمثله على الأرض شهد نكوصا مريعا في أول اختبار عملي لطروحاته وهذا يشكل مدخلاً مناسباً لاختبار فاعلية هذا الوعي لدى المعارضين السوريين فهو «وفق مقاربة متجنية إلى حد ما» لا يتشكل في الغالب إلا عبر ذات «المعارض» ولا يتخيل (غالبية) المعارضين السوريين أي تغيير لا يمر عبرهم بشكل فردي، وهذا أحد موانع تشكل أو تشكيل حركة معارضة حقيقية وفاعلة. وإذ لا يمكننا أن ننفي عن أي سوري صفة «الوطنية» بما فيهم رجالات السلطة وأمن النظام، فإن المعارضين السوريين هم وجه آخر للنظام في علاقتهم بهذه الوطنية والفارق هو المحتوى، ففي حالة السلطة يتم ربط الوطنية بمدى الارتباط بجهاز السلطة والولاء له في ربط ميكانيكي لمفهوم الوطن ودمجه مع السلطة، وما يفعله المعارضون لا يختلف من حيث الجوهر مع هذا، إذ في غالبيتهم يربطون الوطن (القادم) برؤيتهم وتصورهم لحاله، كي لا نبالغ ونقول برؤية فردية ذاتية أو«جماعاتية» مصلحية، لمشروع الوطن «تحت التأسيس»
انشقاق جناح خدام اختبار أول لـ (المعارضة):
تعرض الإعلان لهجوم شديد واتهم بالطائفية والـ... خصوصا من كتّاب اعتبروه إعلانا (سنياً) بالدرجة الأولى وقد كالوا هذه التهم تحت مسميات غير طائفية بل وضعت تحت شعارات وطنية! وكيل له أيضا انتقادات من بعض النخب الكردية وكانت المناقشات تتم للبيان نفسه ولجمله وصياغته..
ولاعتباره (من وجهة نظري) عديم الأهمية على الأرض، كذلك بصياغته وبجمله وبما أراد قوله باستثناء جملة واحدة هي مجاهرة القول بتغيير النظام؛ فان مناقشة البيان غير ذي جدوى ونرى أن انشقاق عبد الحليم خدام واليات تعامل المعارضين مع هذا الانشقاق، يصلح مدخلاً لتدقيق واختبار أهميته وكذلك انسجامه مع طروحاته.
فقد استقبل المعارضون السوريون انشقاق خدام بفتور شديد وتحدث بعضهم أن انشقاقه جاء نتيجة فقدانه لمنصبه وامتيازاته وعليه فانه شأن شخصي وتذكروا تاريخه الأسود داخل النظام وذكروه به.
المقاربة الأولية - والتي ذكرتها في مقال سابق- للمعارضة السورية تجعل قارئها يرى بوضوح أنها ذات عقلية استاتيكية لاتدرك «عملياً» مفاهيم العمل السياسي التغييري! وهذا واضح عبر كل تاريخها، بل إن التبصر في تركيبة هذه المعارضة سيجعلنا نكتشف أن غالبية المعارضين هم مثقفون( الأخوان خارجاً هنا) دخلوا إلى السياسة بأدوات المثقف (على ما قال ياسين الحاج صالح عن نفسه)، وهذا نتاج الفقر الذي أصبح مزمناً في إنتاج «السياسي» خارج كتل المثقفين. لكن أولويات المثقف في تناوله للشأن العام تختلف عن أولويات السياسي، إذ أنه في العموم يجنح (أي المثقف) لتغليب الموقف الأخلاقي - المستند إلى جذر ايديولوجي- وإعطاءه الأولوية على الموقف السياسي. فالموقف الأخلاقي الذي يرضع (في منطقتنا) من حليب الايديولوجيا ثابت زمنيا إلى حد كبير ولا يشهد تحولات مفاجئة بينما الموقف السياسي متبدل ويستند إلى الواقع والوقائع المؤثرة فيه، مكتسبا شرعيته من تمثل هذا الواقع وتمثيله. وقد تم تلقي موقف انشقاق خدام من هذا المنظور الأخلاقي ممتزجاً بمخاوف «مصلحية» سواء مع السقف المسموح من النظام لتحركهم، والذي تشكل عبر عرف صامت أحياناً، وأحياناً أخرى عبر اتصالات بين النظام وبين المعارضين، أو تلك المخاوف الشخصية من «حصة» التغيير بعد دخول لاعبين جدد يعتقد بتأثيرهم وبالتالي سيكون إدماجهم مع(المعارضة) هو تنازل عن جزء من «الحصص» القادمة والتي يقوم عليها بناء الموقف المعارض في غالبيته كما أسلفنا. وإذا كان الموقف الأخلاقي ليس مثلبة ولا مذموم كذلك، إذ أن كل فرد يتشكل لديه وعي ما، سيبني موقفا أخلاقيا من اليوم والأمس والأخر والأفكار وجاره و.. الجرائم التي حدثت وتحدث. لكن الموقف الأخلاقي قد لا يمكن سحبه وفق آلية هندسية ليتم تطبيقه في وأثناء الاشتغال السياسي، خصوصا في لحظاته التغييرية التي تتطلب مساومات وتوافقات وحتى تجاهل وتناسي بعض الجرائم والمآسي لبعض القوى (المعارضة)، وكذلك الناس.
وإذا كانت (المعارضة) أعلنت أن هدفها هو تغيير النظام، فعليه سيكون منطقيا أن يستوجب هذا الموقف يستوجب أن تنتج أفكارها ورؤاها حوله ( أي التغيير) وتتحالف مع أي ظاهرة جديدة تتيح لها أن تقترب من هذا الهدف، إذا كانت الأهداف المعلنة هي نفسها التي يتم العمل عليها جهرا وسرا.
وإذ كانت رغبة النظام إبّان انشقاق خدام أن يدينه الجميع ويهاجمه فان (المعارضة: الداخلية) اكتفت (كحل وسط) أن لا ترحب به فقط، وهو يوضح من جهة علاقتها بالسقف ومن جهة أخرى مدى أهميتها كقوى تغييرية منفصلة عن النظام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق