سعيد ... وقراره المفاجئ
كان الواقع، أنه اكتشف مساء يوم الخميس تحديداً بعد جلسة شاعرية حميمية، بأن راتبه وزوجته يزيد عن 33333.33 ل.س. شهرياً، وبمقدار تافه ... كما أبلغته شريكة عمره.
لا تستغربوا، أعلمتكم سابقاً أن "سعيد" درويش جداً بل حبّوب كثيراً، وهو متفهم تماماً للواقع الأسري ولحقوق المرأة وحسن إدارتها لشؤون المنزل، ولذلك فقد كان يعطي زوجته كل ما يقبضه من راتب وظيفي، و"يحطوا الخبزات على الجبنات" لحياة أسرية سعيدة قنوعة ... من جانبه.
مسكين جاري "سعيد"، اكتشف أنه ليس بالسعيد، وأن أباه – رحمه الله – أخطأ حين أسماه سعيداً، وأن واقع الحال عكس ما هو اسمه تماماً ...
مسكين "سعيد"، اكتشف متأخرا أنه من الطبقة المترفة التي لا تحتاج إلى الدعم الحكومي.
حاولت التسرية عنه بعض الشيء، وإعادة السعادة التي كان مثالاً عنها للشعب السوري السعيد، بقولي له أنه يعمل عملاً إضافياً حراً دون معرفة مصلحة الضرائب، وان الحكومة تمنّن عليه بالتعويض الأسري وتعويض التدفئة ومهمات السفر والطبابة وما إلى ذلك من دعم غير مباشر لقطاع الموظفين الحكوميين .. وأنه ، وأنه ....
قاطعني لاوياً رقبته ببطء واتهمني بأني عديم الإدراك (؟؟!!) ... لأن الدعم الحكومي يتعلق بمجموع الدخل الذي يحصل عليه، وأن زوجته ذكـّرته بأنهم – الأسرة – لم يمارسوا ولا حتى لمرة واحدة حقهم في السياحة الداخلية التي يشاهدونها في التلفاز – كما سبق وأبلغتكم بذلك في "سعيد من شعب سعيد" - ، وأنه تحمّل آلام البحصة منذ أربع سنوات حتى خروجها لعدم مقدرتهم الاستدانة أو تحمل تكاليف العمل الجراحي ....
فاجأني "سعيد"، ومن ناحيتين ... أولهما بأنني عديم الإدراك ؟؟؟ اتهمني وكأنها الشتيمة، لأول مرة خلال معرفتي الطويلة به، وبطريقة تعبيرية غريبة ليست بالتهجم وليست بالعتاب ... وثانيهما أنه يتكلم قهراً – وإن نقلاً - .
مسكين "سعيد"، اكتشف أنه مسكين وليس سعيد... اكتشف بعد تلك الجلسة الشاعرية إياها، أنهم – كأسرة – قد لا يستطيعون إكمال تعليم أبنائهم كما يرغبون إن لم يستطع – الأبناء – الحصول على العلامات شبه التامة في الثانوية النهائية، وأنهم لا يستطيعون حتى في التعليم الموازي أو المفتوح، وأنهم بذلك سيحرمون الوطن من كفاءات قد تضطر إلى إظهار مواهبها في "المغتربات" إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً بفضل أقربائهم في تلك المغتربات... وأبلغني المسكين أنهم قد لا يستطيعون دعوة الأحباب والأقرباء والأصحاب إلى "حفل بهيج" بمناسبة زفاف أحد أبنائهم كما يشاهدون في التلفاز .. وأنهم لا يستطيعون .. ولا يستطيعون .. مستطرداً بنقل أحاديث سمعها من زوجه في تلك الجلسة الحميمية إياها.
صدمني "سعيد" وحيّرني .. كيف سأتصرف، كيف سأرد، ماذا سأقول ... أصدقكم القول ؟ كأنها ساعة في لحظات.
حاولت مجدداً : احسبها "سعيد"، إن مبلغ الدعم بكامله لا يتجاوز ثمن برميل واحد من المازوت على ظهر السيارة، ما بك؟؟؟ نظر إلي جانبياً واستمر ملياً دون أي تعبير كلامي صدر منه ...
تفاجأت ثانية... كررت قولي فأجاب : أنا المواطن العربي السوري منذ ولادتي، الذي لا أملك بيتاً ولا سيارة، وكل ما أدفعه فواتير مياه وكهرباء وهاتف لا تتجاوز ألفي ليرة شهرياً، وليس لدي سجل من تلك السجلات الخاصة بمصاصي قوت الشعب، ومما تقبضته زوجتي من راتبها وراتبي بالكاد أن يكفي مصاريفنا، اضطررنا للاستدانة في العام المنصرم لأجل "المازوت"، والأسعار ترتفع باستمرار، والمصاريف تزدادا بازدياد أعمار الأولاد .. وهناك من يحصل على نقود أكثر منا ويسكن بفيلات ليست باسمه في الريف والمدينة وله ملكيات يعمل بها دون سجل زراعي وسيحصل على الدعم وأنا لا ؟؟.... استمر بالكلام وأنا كالمذهول أمامه.
أهذا هو سعيد ...؟
حاولت مرة أخرى، بإمكانك "سعيد" الطلب من نقابتكم رفع مذكرة إلى اتحاد العمال في المدينة وهو سيرفع مثلها إلى الاتحاد العام في دمشق !!! وكانت المفاجأة ...
نهض "سعيد" دون أي كلمة وخرج من مكتبي مسرعاً، تبعته وأعدته داخلاً، أجلسته ومازحته قليلاً ثم سألته إن كان يرى السبب في سياسة حكومتنا الاقتصادية.؟ أجابني بسرعة فائقة أن لا، فالحكومة تعلم تماماً ماذا تفعل لكن المشكلة فيمن يكتب القرارات التي توقع عليها الحكومة بسرعة .
حسناً، عاد "سعيد" إلى طبيعته والحمد لله ... وافقته بالطبع على مقولته كاتماً حالة الغيظ التي اشتعلت بداخلي، مبتعداً جهدي عن إثارته... بعد قليل سألته عن صحته الجسدية وهل إذا ما كان مثل أيام شبابه (؟؟) .. ضحك "سعيد" عالياً ثم سكت فجأة مع حالة من السكون الغريب على وجهه.
ارتعبت، ما قصتك "سعيد" ؟؟ تبين أنه لم يعد بإمكانه الاستمرار بالعادة الأسرية الحميمية بعد غلاء المازوت وإيقاف الدعم الحكومي عنه.. كان رأيي أنها وببساطة، سياسة حكومية ممتازة للحد من تزايد عدد السكان، ارتفع صوته قائلاً لماذا يشجعون استعمال الأدوات الواقية إذاً...؟
اسقط بيدي مجدداً، إنما انتابتني حالة غريبة لا شعورية من السرور حاولت كتمانها وعدم إظهارها.... استطعت تغيير الموضوع واستمرت الجلسة قليلاً، ثم ودعني "سعيد"، وتلك الحالة اللاشعورية لا تفارقني.
لكنه اتصل بي فور وصوله منزله ليعلمني أنه لم ينقطع عن التفكير خلال سيره وتوصل إلى قرار جذري...
إنه سيغيّر اسمه ....
صمتُّ برهة، ثم تمنيت له نوماً هنيئاً وأنا أكتم رغبتي .... بالصياح سروراً.
ربي وإلهي، استجب لدعواتي أنا العبد الصالح، دعهم يأتون، جميع اللجان الدولية ذات العلاقة بتصنيف السعادة العالمي... ليروا سعيداً في حالته الجديدة .
ادعوا معي رحمكم الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق